فصل: تفسير الآيات رقم (15- 20)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏139- 146‏]‏

‏{‏وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏139‏)‏ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏140‏)‏ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ‏(‏141‏)‏ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ‏(‏142‏)‏ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ‏(‏143‏)‏ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏144‏)‏ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ‏(‏145‏)‏ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ‏(‏146‏)‏‏}‏

وهذا ‏{‏يونس‏}‏ بن متى صلى الله عليه وسلم، وهو من بني إسرائيل، وروي أنه نبئ ابن ثمانية وعشرين سنة فتفسخ تحت أعباء النبوءة كما يتفسخ الربع تحت الحمل، وقد تقدم شرح قصته ولكن نذكر منها ما تفهم به هذه الألفاظ، فروي أن الله بعثه إلى قومه فدعاهم مرة فخالفوه فوعدهم بالعذاب، وأعلمه الله تعالى بيومه فحدده يونس لهم، ثم إن قومه لما رأوا مخايل العذاب قبل أن يباشرهم تابوا وآمنوا فتاب الله عليهم وصرف العذاب عنهم، وكان في هذا تجربة ليونس فلحقت يونس غضبة، ويروى أنه كان في سيرتهم أن يقتلوا الكذاب إذا لم تقم له بينة، فخافهم يونس وغضب مع ذلك ف ‏{‏أبق إلى الفلك‏}‏ أي أراد الهروب ودخل في البحر وعبر عن هروبه بالإباق، من حيث هو عبد الله فر عن غير إذن مولاه، فهذه حقيقة الإباق، و‏{‏الفلك‏}‏ في هذا الموضع واحد، و‏{‏المشحون‏}‏ الموقر، وهنا قصص محذوف إيجازاً واختصاراً، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه لما حصل في السفينة وأبعدت في البحر ركدت ولم تجر، والسفن تجري يميناً وشمالاً فقال أهلها إن فينا لصاحب ذنب وبه يحبسنا الله تعالى فقالوا لنفترع، فأخذوا لكل أحد سهماً وقالوا اللهم ليطف سهم المذنب، ولتغرق سهام الغير فطفا سهم يونس، ففعلوا نحو هذا ثلاث مرات في كل مرة تقع القرعة عليه، فأزمعوا معه على أن يطرحوه في البحر فجاء إلى ركن من أركان السفينة ليقع منه فإذا بدابة من دواب البحر ترقبه وترصد له فرجع إلى الركن الآخر فوجدها كذلك حتى استدار أركان السفينة ليقع منه بالمركب وهي لا تفارقه فعلم أن ذلك عن دالله فترامى إليها فالتقمته، وروي أنما التقمته بعد أن وقع في الماء، وروي أن الله أوحى إلى الحوت أني لم أجعل يونس لك رزقاً وإنما جعلت بطنك له حرزاً وسجناً فهذا معنى ‏{‏فساهم‏}‏ أي قارع وكذلك فسر ابن عباس والسدي، و«المدحض» الزاهق المغلوب في محاضة أو مساهمة أو مسابقة ومنه الحجة الداحضة، و«المليم» الذي أتى ما يلام عليه، ألام الرجل دخل في اللوم، وبذلك فسر مجاهد وابن زيد ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وكم من مليم لم يصب بملامة *** ومتبع بالذنب ليس له ذنب

ومنه قول لبيد بن ربيعة‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

سفهاً عذْلتَ ولمت غير مليم *** وهداك قبل اليوم غير حكيم

ثم استنقذه الله من بطن الحوت بعد مدة واختلف الناس فيها، فقالت فرقة بعد ساعة من النهار، وقالت فرقة بعد سبع ساعات، وقال مقاتل بن حيان بعد ثلاثة أيام، وقال عطاء بن أبي رباح بعد سبعة أيام، وقالت فرقة بعد أربعة عشر يوماً، وقال أبو مالك والسدي بعد أربعين يوماً، وهو قول ابن جريج أنه بلغه وجعل تعالى علة استنقاذه مع القدر السابق تسبيحه، واختلف الناس في ذلك فقال ابن جريج هو قوله في بطن الحوت سبحان الله، وقالت فرقة بل التسبيح وصلاة التطوع، واختلفت هذه الفرقة، فقال قتادة وابن عباس وأبو العالية صلاته في وقت الرخاء نفعته في وقت الشدة، وقال هذا جماعة من العلماء، وقال الضحاك بن قيس على منبره اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة إن يونس كان عبداً لله ذاكراً فلما أصابته الشدة نفعه ذلك، قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون‏}‏، وإن فرعون كان طاغياً باغياً فلما أدركه الغرق قال آمنت فلم ينفعه ذلك، فاذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة‏.‏

وقال قتادة في الحكمة‏:‏ إن العمل يرفع صاحبه إذ عثر فإذا صرع وجد متكئاً، وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ كانت سبحته صلاة في بطن الحوت، وروي أنه كان يرفع لحم الحوت بيديه ويقول يا رب لأبنين لك مسجداً حيث لم يبنه أحد قبلي ويصلي، وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يونس حين نادى في الظلمات، ارتفع نداؤه إلى العرش فقالت الملائكة‏:‏ يا رب هذا صوت ضعيف من موضع غربة، فقال الله هو عبدي يونس فأجاب الله دعوته‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذكر الحديث وقال ابن جبير الإشارة بقوله ‏{‏من المسبحين‏}‏ إلى قوله ‏{‏لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وكثر الناس في هذا القصص بما اختصرناه لعدم الصحة، وروي أن الحوت مشى به في البحار كلها حتى قذفه في نصيبين من ناحية الموصل فنبذه الله في عراء من الأرض، و«العراء» الفيفاء التي لا شجر فيها ولا معلم ومنه قول الشاعر‏:‏

رفعت رجلاً لا أخاف عثارها *** ونبذت بالبلد العراء ثيابي

وقال السدي وابن عباس في تفسير قوله ‏{‏وهو سقيم‏}‏، إنه كان كالطفل المنفوش بضعة لحم، وقال بعضهم كان كاللحم النيء إلا أنه لم ينقص من خلقه شيء فأنعشه الله في ظل «اليقطينة» بلبن أروية كانت تغاديه وتراوحه، وقيل بل كان يتغذى من اليقطينة، ويجد منها ألوان الطعام، وأنواع شهواته واختلف الناس في «اليقطينة» فقالت فرقة هي شجرة لا نعرفها سماها الله باليقطينة وهي لفظة مأخوذة من قطن إذا أقام بالمكان، وقال سعيد بن جبير وابن عباس والحسن ومقاتل اليقطين كل ما لا يقوم على ساق من عود كالبقول والقرع والحنظل، والبطيخ ونحوه مما يموت من عامه، وروي نحوه عن مجاهد، وقال ابن عباس وأبو هريرة وعمرو بن ميمون «اليقطين» القرع خاصة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعلى هذين القولين فإما أن يكون قوله ‏{‏شجرة‏}‏ تجوزاً وإما أن يكون أنبتها عليه ذات ساق خرقاً للعادة، لأن الشجرة في كلام العرب إنما يقال لما كان على ساق من عود، وحكى بعض الناس أنها كانت قرعة وهي تجمع خصالاً برد الظل والملمس وعظم الورق وأن الذباب لا يقربها، وحكى النقاش أن ماء ورق القرعة إذا رش بمكان لم يقربه ذباب، ومشهور اللغة أن «اليقطين» القرع وقد قال أمية بن أبي الصلت في قصة يونس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فأنبت يقطيناً عليه برحمة *** من الله لولا الله ألفي ضاحيا

فنبت يونس عليه السلام وصح وحسن جسمه لأن ورق القرع أنفع شيء لمن تسلخ جلده كيونس صلى الله عليه وسلم، وروي أنه كان يوماً نائماً فأيبس الله تلك اليقطينة، وقيل بعث عليها الأرضة فقطعت عروقها فانتبه يونس لحر الشمس فعز عليه شأنها وجزع له، فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ يا يونس أجزعت ليبس اليقطينة ولم تجزع لإهلاك مائة ألف أو يزيدون تابوا فتيب عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏147- 157‏]‏

‏{‏وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ‏(‏147‏)‏ فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏(‏148‏)‏ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ‏(‏149‏)‏ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ‏(‏150‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ‏(‏151‏)‏ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏152‏)‏ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ‏(‏153‏)‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏154‏)‏ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏155‏)‏ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ‏(‏156‏)‏ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

قال الجمهور إن هذه الرسالة ‏{‏إلى مائة ألف‏}‏ في رسالته الأولى التي أبق بعدها، ذكرها الله في آخر القصص تنبيهاً على رسالته، ويدل على ذلك قوله ‏{‏فآمنوا فمتعناهم إلى حين‏}‏، وتمتيع تلك الأمة هو الذي أغضب يونس حتى أبق، وقال قتادة وابن عباس أيضاً هذه الرسالة أخرى بعد أن نبذ بالعراء وهي إلى أهل نينوى من ناحية الموصل، وقرأ جعفر بن محمد، «ويزيدون» بالواو، وقرأ الجمهور «أو يزيدون»، فقال ابن عباس «أو» بمعنى «بل»، وكانوا مائة ألف وثلاثين ألفاً، وقال أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم «كانوا مائة وعشرين ألفاً»، وقال ابن جبير‏:‏ كانوا مائة وسبعين ألفاً، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «إلى مائة ألف بل يزيدون»، وقالت فرقة ‏{‏أو‏}‏ هنا بمعنى الواو، وقالت فرقة هي للإبهام على المخاطب، كما تقول ما عليك أنت أنا أعطي فلاناً ديناراً أو ألف دينار، ونحو هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 128‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا المعنى قليل التمكن في قوله ‏{‏أو يزيدون‏}‏، وقال المبرد وكثير من البصريين‏:‏ المعنى على نظر البشر وحزرهم، أي من رآهم قال‏:‏ هم مائة ألف أو يزيدون، وروي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآمنوا فمتعناهم‏}‏ فمتعهم ‏{‏إلى حين‏}‏ أنهم خرجوا بالأطفال أولاد البهائم وفرقوا بينها وبين الأمهات وناحوا وضجوا وأخلصوا فرفع الله عنهم، والتمتيع هنا هو بالحياة و«الحين» آجالهم السابقة في الأزل، قاله قتادة والسدي، وقرأ ابن أبي عبلة «حتى حين»، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآمنوا فمتعناهم إلى حين‏}‏ مثال القريش أي أن آمنوا كما جرى لهؤلاء، ومن هنا حسن انتقال القول والمحاورة إليهم بقوله، ‏{‏فاستفتهم‏}‏ فإنما يعود ضميرهم على ما في المعنى من ذكرهم، والاستفتاء السؤال، وهو هنا بمعنى التقريع والتوبيخ، على قولهم على الله البهتان وجعلهم البنات لله تعالى عن ذلك وأمره بتوقيفهم على جهة التوبيخ أيضاً هل شاهدوا أن الملائكة إناث فيصح لهم القول به، ثم أخبر تعالى عن فرقة منهم بلغ بها الإفك والكذب إلى أن قالت ولد الله الملائكة لأنه نكح في سروات الجن وهذه فرقة من بني مدلج فيما روي، وقرأ جمهور الناس «اصطفى» بالهمز وهو ألف الاستفهام وهذا على جهة التقرير والتوبيخ على نسبتهم إليه اختيار الأدنى عندهم، وقرأ نافع في رواية إسماعيل عنه «اصطفى» بصلة الألف على الخبر كأنه يحكي شنيع قولهم، ورواها إسماعيل عن أبي جعفر وشيبة، ثم قرر ووبخ وعرض للتذكر والنظر واستفهم عن البرهان والحجة على جهة التقرير وضمهم الاستظهار بكتاب أو أمر يظهر صدقهم، وقرأ الجمهور «أفلا تذّكّرون» مشددة الذال والكاف، وقرأ طلحة بن مصرف «تذْكُرون» بسكون الذال وضم الكاف خفيفة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏158- 169‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ‏(‏158‏)‏ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏159‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏160‏)‏ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ‏(‏161‏)‏ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ‏(‏162‏)‏ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ‏(‏163‏)‏ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ‏(‏164‏)‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ‏(‏165‏)‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ‏(‏166‏)‏ وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ ‏(‏167‏)‏ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏168‏)‏ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏169‏)‏‏}‏

الضمير في قوله ‏{‏وجعلوا‏}‏ لفرقة من كفار قريش والعرب، قال ابن عباس في كتاب الطبري إن بعضهم قال إن الله تعالى وإبليس أخوان، وقال مجاهد‏:‏ قال قوم لأبي بكر الصديق‏:‏ إن الله تعالى نكح في سروات الجن، وقال بعضهم إن الملائكة بناته، ف ‏{‏الجنة‏}‏ على هذا القول الأخير يقع على الملائكة سميت بذلك لأنها مستجنة أي مستترة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون‏}‏ من جعل الجنة الشياطين جعل العلامة في ‏{‏علمت‏}‏ لها، والضمير في ‏{‏إنهم‏}‏ عائد عليهم أي جعلوا الشياطين بنسب من الله والشياطين تعلم ضد ذلك من أنها ستحضر أمر الله وثوابه وعقابه، ومن جعل الجنة الملائكة جعل الضمير في ‏{‏إنهم‏}‏ للقائلين هذه المقالة أي علمت الملائكة أن هؤلاء الكفرة سيحضرون ثواب الله وعقابه وقد يتداخل هذان القولان، ثم نزه تعالى نفسه عما يصفه الناس ولا يليق به، ومن هذا استثنى العباد المخلصين لأنهم يصفونه بصفاته العلى، وقالت فرقة استثناهم من قوله ‏{‏إنهم لمحضرون‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا يصح على قول من رأى الجنة الملائكة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنكم وما تعبدون‏}‏ بمعنى قل لهم يا محمد إنكم وإصنامكم ما أنتم بمضلين أحداً بسببها، وعليها الأمر سبق عليه القضاء وضمه القدر، بأنه يصلى الجحيم في الآخرة، وليس عليكم إضلال من هدى الله تعالى، وقالت فرقة ‏{‏عليه‏}‏، بمعنى به، و«الفاتن» المضل في هذا الموضع وكذلك فسر ابن عباس والحسن بن أبي الحسن، وقال ابن الزبير على المنبر‏:‏ إن الله هو الهادي والفاتن، و‏{‏من‏}‏ في موضع نصب ‏{‏بفاتنين‏}‏، وقرأ الجمهور «صالِ الجحيم» بكسر اللام، من صال حذفت الياء للإضافة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «صالُ الجحيم» بضم اللام وللنحاة في معناه اضطراب، أقواه أنه صالون حذفت النون للإضافة، ثم حذفت الواو للالتقاء وخرج لفظ الجميع بعد لفظ الإفراد، فهو كما قال ‏{‏ومنهم من يستمعون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 42‏]‏ لما كانت «من» و«هو» من الأسماء التي فيها إبهام ويكنى بها عن أفراد وجمع ثم حكى قول الملائكة، ‏{‏وما منا‏}‏ وهذا يؤيد أن الجنة أراد بها الملائكة كأنه قال ولقد علمت كذا أو أن قولها لكذا، وتقدير الكلام ما منا ملك، وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن السماء ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو واقف يصلي»، وقال ابن مسعود «موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه»، وقرأ ابن مسعود «وإن كلنا لما له مقام معلوم»، و‏{‏الصافون‏}‏ معناه الواقفون صفوفاً، و‏{‏المسبحون‏}‏ يحتمل أن يريد به الصلاة، يحتمل أن يريد به قول سبحان الله، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا أقيمت الصلاة صرف وجهه إلى الناس فيقول لهم‏:‏ عدلوا صفوفكم وأقيموها فإن الله تعالى إنما يريد بكم هدي الملائكة، فإنها تقول ‏{‏وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون‏}‏، ثم يرى تقويم الصفوف، وعند ذلك ينصرف ويكبر، قال الزهراوي‏:‏ قيل إن المسلمين إنما اصطفوا منذ نزلت هذه الآية، ولا يصطف أحد من أهل الملل غير المسلمين، ثم ذكر عز وجل مقالة بعض الكفار، وقال قتادة والسدي والضحاك فإنهم قبل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قالوا لو كان لنا كتاب أو جاءنا رسول لكنا من أتقى عباد الله وأشدهم إخلاصاً فلما جاءهم محمد كفروا فاستوجبوا أليم العقاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏170- 182‏]‏

‏{‏فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏170‏)‏ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ‏(‏171‏)‏ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ‏(‏172‏)‏ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏173‏)‏ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏174‏)‏ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ‏(‏175‏)‏ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏176‏)‏ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏177‏)‏ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏178‏)‏ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ‏(‏179‏)‏ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏180‏)‏ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ‏(‏181‏)‏ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏182‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏، وعيد محض لأنهم تمنوا أمراً فلما جاءهم الله تعالى به كفروا واستهواهم الحسد، ثم أنس تعالى نبيه وأولياءه بأن القضاء قد سبق، والكلمة قد حقت في الأزل بأن رسل الله تعالى إلى أرضه هم ‏{‏المنصورون‏}‏ على من ناوأهم المظفرون بإرادتهم المستوجبون الفلاح في الدارين، وقرأ الضحاك «كلماتنا» بألف على الجمع، وجند الله هم الغزاة لتكون كلمات الله هي العليا، وقال علي بن أبي طالب‏:‏ جند الله في السماء الملائكة، وفي الأرض الغزاة وقوله تعالى، ‏{‏فتول عنهم حتى حين‏}‏ وعد للنبي صلى الله عليه وسلم وأمر بالموادعة، وهذا مما نسخته آية السيف، واختلف الناس في المراد ب «الحين»، هنا، فقال السدي‏:‏ الحين المقصود يوم بدر ورجحه الطبري، وقال قتادة‏:‏ الحين موتهم، وقال ابن زيد‏:‏ الحين المقصود يوم القيامة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأبصرهم فسوف يبصرون‏}‏ وعد للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد لهم أي سوف يرون عقبى طريقتهم، ثم قرر تعالى نبيه على جهة التوبيخ لهم على استعجالهم عذاب الله، وقرأ جمهور الناس «فإذا نَزَل بساحتهم» على بناء الفعل للفاعل أي نزل العذاب، وقرأ ابن مسعود «نُزِل بساحتهم» على بنائه للمفعول، والساحة الفناء، والعرب تستعمل هذه اللفظة فيما يرد على الإنسان من خير أو شر، وسوء الصباح أيضاً مستعمل في ورود الغارات والرزايا، ونحو ذلك ومنه قول الصارخ‏:‏ يا صباحاه‏!‏ كأنه يقول قد ساء لي الصباح فأغيثوني، وقرأ ابن مسعود «فبئس صباح»، ثم أعاد عز وجل أمر نبيه بالتولي تحقيقاً لتأنيسه وتهمماً به، وأعاد وتوعدهم أيضاً لذلك، ثم نزه نفسه تنزيهاً مطلقاً عن جميع ما يمكن أن يصفه به أهل الضلالات، و‏{‏العزة‏}‏ في قوله ‏{‏رب العزة‏}‏ هي العزة المخلوقة الكائنة، للأنبياء والمؤمنين وكذلك قال الفقهاء من أجل أنها مربوبة، وقال محمد بن سحنون وغيره‏:‏ من حلف بعزة الله فإن كان أراد صفته الذاتية فهي يمين، وإن كان أراد عزته التي خلقها بين عباده وهي التي في قوله ‏{‏رب العزة‏}‏ فليست بيمين، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذا سلمتم عليَّ فسلموا على المرسلين، فإنما أنا أحدهم»، وباقي الآية بين، وذكر أبو حاتم عن صالح بن ميناء قال‏:‏ قرأت على عاصم بن أبي النجود فلما ختمت هذه السورة سكت فقال لي‏:‏ إيه اقرأ، قلت قد ختمت، فقال كذلك فعلت على أبي عبد الرحمن وقال لي كما قلت لك، وقال لي كذلك قال لي علي بن أبي طالب وقال‏:‏ «وقل آذنتكم باذانة المرسلين لتسألن عن النبإ العظيم»، وفي مصحف عبد الله «عن هذا النبإ العظيم»‏.‏

سورة ص

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ ‏(‏1‏)‏ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ‏(‏2‏)‏ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ‏(‏3‏)‏ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ‏(‏4‏)‏ أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قرأ الحسن وأبي بن كعب وابن أبي إسحاق‏:‏ «صادِ» بكسر الدال على أنه أمر من صادى يصادي إذا ضاهى وماثل، أي صار كالصدى الذي يحكي الصياح، والمعنى‏:‏ ماثل القرآن بعلمك وقارنه بطاعتك، وهكذا فسر الحسن، أي انظر أين عملك منه، وقال جمهور الناس‏:‏ إنه حرف المعجم المعروف، ويدخله ما يدخل سائر أوائل السور من الأقوال، ويختص هذا الموضع بأن قال بعض الناس‏:‏ معناه صدق محمد، وقال الضحاك معناه‏:‏ صدق الله، وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ هو مفتاح أسماء الله‏:‏ صمد صادق الوعد، صانع المصنوعات، وقرأها الجمهور‏:‏ «صادْ» بسكون الدال، وقرأ ابن أبي إسحاق بخلاف عنه «صادٍ» بكسر الدال وتنوينها على القسم، كما تقول‏:‏ الله لأفعلن‏.‏ وحكى الطبري وغيره عن ابن أبي إسحاق‏:‏ «صادِ» بدون تنوين، وألحقه بقول العرب‏:‏ خاث باث، وخار وباز‏.‏ وقرأ فرقة منها عيسى بن عمر‏:‏ «صادَ» بفتح الدال، وكذلك يفعل في نطقه بكل الحروف، يقول‏:‏ قافَ، ونونَ، ويجعلها كأين وليت‏:‏ قال الثعلبي، وقيل معناه‏:‏ صاد محمد القلوب، بأن استمالها للإيمان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والقرآن ذي الذكر‏}‏ قسم‏.‏ وقال السدي وابن عباس وسعيد بن جبير، معناه ذي الشرف الباقي المخلد‏.‏ وقال قتادة والضحاك‏:‏ ذي التذكرة للناس والهداية لهم‏.‏ وقالت فرقة معناه‏:‏ ذي الذكر لأمم والقصص والغيوب‏.‏ وأما جواب القسم فاختلف فيه، فقالت فرقة‏:‏ الجواب في قوله‏:‏ ‏{‏ص‏}‏ إذ هو بمعنى صدق محمد، أو صدق الله‏.‏ وقال الكوفيون والزجاج، الجواب قوله‏:‏ ‏{‏إن ذلك لحق تخاصم أهل النار‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 64‏]‏‏.‏ وقال البصريين ومنهم الأخفش، الجواب في قوله‏:‏ ‏{‏إن كل كذب الرسل‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 14‏]‏‏.‏

قال القضي أبو محمد‏:‏ وهذان القولان بعيدان‏.‏

وقال قتادة والطبري‏:‏ الجواب مقدر قبل بل، وهذا هو الصحيح، تقديره‏:‏ والقرآن ما الأمر كما يزعمون، ونحو هذا من التقدير فتدبره‏.‏ وحكى الزجاج عن قوم أن الجواب قوله‏:‏ ‏{‏كم أهلكنا‏}‏ وهذا متكلف جداً‏.‏ والعزة هنا‏:‏ المعازة والمغالبة‏.‏ والشقاق‏:‏ نحوه أي هم في شق، والحق في شق‏.‏ و‏:‏ ‏{‏كم‏}‏ للتكثير، وهي خبر فيه مثال ووعيد، وهي في موضع نصب ب ‏{‏أهلكنا‏}‏‏.‏ والقرن الأمة من الناس يجمعها زمن احد، وقد تقدم تحريره مراراً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فنادوا‏}‏ معناه‏:‏ مستغيثين، والمعنى أنهم فعلوا ذلك بعد المعاينة فلم ينفع ذلك، ولم يكن في وقت نفع‏.‏ ‏{‏ولات‏}‏ بمعنى‏:‏ ليس، واسمها مقدر عند سيبويه، تقديره ولات الحين حين مناص، وهي‏:‏ لا ‏(‏لحقتها‏:‏ تاء، كما تقول‏)‏ ربت وثمت‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهي كتاء جلست وقامت، تاء الحروف كتاء لأفعال دخلت على ما لا يعرب في الوجهين، ولا تستعمل «لا» مع التاء إلا في الحين والزمان والوقت ونحوه، فمن ذلك قول الشاعر ‏[‏محمد بن عيسى بن طلحة‏]‏‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

لات ساعة مندم *** وقال الآخر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

تذكر حب ليلى لات حينا *** وأضحى الشيب قد قطع القرينا

وأنشد بعضهم في هذا المعنى‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

طلبوا صلحنا ولات أوان *** فأجبنا أن ليس حين بقاء

وأنشد الزجاج بكسر التاء، وهذا كثير، قراءة الجمهور‏:‏ فتح التاء من‏:‏ «لاتَ» والنون من‏:‏ «حينَ» وروي عن عيسى كسر التاء من‏:‏ «لاتِ» ونصب النون‏.‏ وروي عنه أيضاً‏:‏ «حينِ» بكسر النون، واختلفوا في الوقف على‏:‏ ‏{‏لات‏}‏ فذكر الزجاج أن الوقف بالتاء، ووقف الكسائي بالهاء، ووقف قوم واختاره أبو عبيد على «لا»، وجعلوا التاء موصولة ب ‏{‏حين‏}‏، فقالوا «لا تحين»، وذكر أبو عبيد أنها كذلك في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويحتج لهذا بقول أبي وجزة‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

العاطفون تحين ما من عاطف *** والمطعمون زمان ما من مطعم

يمدح آل الزبير‏.‏ وقرأ بعض الناس‏:‏ «لات حينُ» برفع النون من‏:‏ ‏{‏حين‏}‏ على إضمار الخبر‏.‏ والمناص‏:‏ المفر، ناص ينوص، إذا فات وفر، قال ابن عباس‏:‏ المعنى ليس بحين نزو ولا فرار ضبط القوم‏.‏ والضمير في‏:‏ ‏{‏عجبوا‏}‏ لكفار قريش، واستغربوا أن نبئ بشر منهم فأنذرهم، وأن وحد إلهاً، وقالوا‏:‏ كيف يكون إله واحد يرزق الجميع وينظر في كل أمرهم‏؟‏ و‏:‏ ‏{‏عجاب‏}‏ بناء مبالغة، كما قالوا سريع وسراع، وهذا كثير‏.‏

وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعيسى بن عمر‏:‏ «عجّاب» بشد الجيم، ونحوه قول الراجز‏:‏ ‏[‏الراجز‏]‏

جاؤوا بصيد عجب من العجب *** أزيد والعينين طوال الذنب

وقد قالوا‏:‏ رجل كرام، أي كريم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 9‏]‏

‏{‏وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ‏(‏6‏)‏ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ‏(‏7‏)‏ أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ‏(‏8‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

روي في قصص هذه الآية أن أشراف قريش وجماعتهم اجتمعوا عند مرض أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إن من القبيح علينا أن يموت أبو طالب ونؤذي محمداً بعده، فتقول العرب‏:‏ تركوه مدة عمه، فلما مات آذوه، ولكن لنذهب إلى أبي طالب فلينصفنا منه، وليربط بيننا وبينه ربطاً، فنهضوا إليه، فقالوا يا أبا طالب إن محمداً يسب ويسفه آراءنا وآراء آبائنا ونحن لا نقاره على ذلك، ولكن افصل بيننا وبينه في حياتك، بأن يقيم في منزله يعبد ربه الذي زعم، ويدع آلهتنا، ولا يعرض لأحد منا بشئ من هذا، فبعث أبو طالب في محمد صلى الله عليه وسلم، فقال يا محمد، إن قومك قد دعوك إلى النصفة، وهي أن تدعهم وتعبد ربك وحدك، فقال‏:‏ أو غير لك يا عم‏؟‏ قال وما هو‏؟‏ قال‏:‏ يعطوني كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم الجزية بها العجم قالوا وما هي‏؟‏ فإنا نبادر إليها، قال‏:‏ لا إله إلا الله، فنفروا عند ذلك، وقالوا ما يرضيك منا غير هذا‏؟‏ قال‏:‏ والله لو أعطيتموني الأرض ذهباً ومالاً‏.‏ وفي رواية‏:‏ لو جعلتم الشمس في يميني والقمر في شمالي ما أرضاني منكم غيرها، فقاموا عند ذلك، وبعضهم يقول‏:‏ ‏{‏أجعل الآلهة إلهاً واحداً، إن هذا لشيء عجاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 5‏]‏ ويرددون هذا المعنى، وعقبة بن أبي معيط يقول‏:‏ ‏{‏امشوا واصبروا على آلهتكم‏}‏‏.‏

وجلبت هذا الخبر تام المعنى، وفي بعض رواياته زيادة ونقصان، والغرض متقارب، ولما ذهبوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا عم، قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله»، فقال‏:‏ والله لولا أن تكون سبة في بني بعدي لأقررت بها عينك، ومات وهو يقول‏:‏ على ملة عبد المطلب، فنزلت في ذلك‏:‏ ‏{‏إنك لا تهدي من أحببت‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏ وانطلق‏.‏

فقوله تعالى في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وانطلق الملأ‏}‏ عبارة عن خروجهم عن أبي طالب وانطلاقهم من ذلك الجمع، هذا قول جماعة من المفسرين‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ هي عبارة عن إذاعتهم لهذه الأقاويل، فكأنه كما يقول الناس‏:‏ انطلق الناس بالدعاء للأمير ونحوه، أي استفاض كلامهم بذلك، و‏{‏الملأ‏}‏ الأشراف والرؤوس الذي يسدون مسد الجميع في الآراء ونحوه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أن امشوا‏}‏ ‏{‏أن‏}‏ مفسرة لا موضع لها في الإعراب، ويجوز أن يكون في موضع نصب بإسقاط حرف الجر، أي بأن، فهي بتقدير المصدر، كأنه قال‏:‏ وانطلق الملأ منهم بقولهم‏:‏ امشوا ومعنى الآية أنه قال بعضهم لبعض امشوا واصبروا على كل أمر آلهتكم، وذهب بعض الناس إلى أن قولهم‏:‏ ‏{‏امشوا‏}‏، هو دعاء بكسب الماشية، وفي هذا ضعف، لأنه كان يلزم أن تكون الألف مقطوعة، لأنه إنما يقال‏:‏ أمشي الرجل إذا صار صاحب ماشية، وأيضاً فهذا المعنى غير متمكن في الآية، وإنما المعنى‏:‏ سيروا على طريقتكم ودوموا على سيركم، أو يكون المعنى‏:‏ أمر من نقل الأقدام، قالوه عند انطلاقهم، وهو في مصحف عبد الله بن مسعود‏:‏ «وانطلق الملأ منهم يمشون أن اصبروا»‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏إن هذا لشيء يراد‏}‏ يريدون ظهور محمد وعلوه بالنبوة، أي يراد منا‏:‏ الانقياد إليه‏:‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏ما سمعنا بهذا‏}‏ يريدون بمثل هذه المقالة أن الإله واحد‏.‏

واختلف المتأولون في قولهم‏:‏ ‏{‏في الملة الآخرة‏}‏ فقال مجاهد‏:‏ أرادوا ملتهم ونحلتهم التي العرب عليها، ويقال لكل ما تتبعه أمة ما ملة‏.‏ وقال ابن عباس والسدي‏:‏ أراد ملة النصارى، وذلك متجه، لأنها ملة شهير فيها التثليث، وأن الإله ليس بواحد‏.‏ وقالت فرقة معنى قولهم‏:‏ ‏{‏ما سمعنا‏}‏ أنه يكون مثل هذا، ولا أنه يقال في الملة الآخرة التي كنا نسمع أنها تكون آخر الزمان، وذلك أنه قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم كان الناس يستشعرون خروج نبي وحدوث ملة ودين، ويدل على صحة هذا ما روي من قول الأحبار ذوي الصوامع، وروي عن شق وسطيح، وما كانت بنو إسرائيل تعتقد من أنه يكون منهم‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏إن هذا إلا اختلاق‏}‏ إشارة إلى جميع ما يخبر به محمد صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، ثم قالوا على جهة التقرير من بعضهم لبعض، ومضمن ذلك الإنكار‏:‏ ‏{‏أأنزل عليه الذكر من بيننا‏}‏ بمعنى نحن الأشراف الأعلام، فلم خص هذا‏؟‏ وكيف يصح هذا‏؟‏ فرد الله تعالى قولهم بما تقضيه بل، لأن المعنى ليس تخصيص الله وإنعامه جار على شهواتهم، ‏{‏بل هم في شك من ذكري‏}‏ أي في ريب أن هذا التذكير بالله حق، ثم توعدهم بقوله‏:‏ ‏{‏بل لما يذوقوا عذاب‏}‏ أي لو ذاقوه لتحققوا أن هذه الرسالة حق، أي هم لجهالتهم لا يبين لهم النظر، وإنما يبين لهم مباشرة العذاب‏.‏

وقرأ ابن مسعود‏:‏ «أم أنزل» بميم بين الهمزتين، ثم وقفهم احتجاجاً عليهم، أعندهم رحمة ربك وخزائنها التي فيها الهدى والنبوءة وكل فضل، فيكون لهم تحكم في الرسالة وغيرها من نعم الله‏.‏ و‏{‏أم‏}‏‏:‏ هنا، لم تعادلها ألف، فهي المقطوعة التي معناها إضراب عن الكلام الأول واستفهام، وقدرها سيبويه ب «بل» والألف كقول العرب‏:‏ إنها لإبل أم شاء‏.‏ والخزائن للرحمة مستعارة، كأنها موضع جمعها وحفظها من حيث كانت ذخائر البشر تحتاج إلى ذلك خوطبوا في الرحمة بما ينحوا إلى ذلك‏.‏ وقال الطبري‏:‏ يعني ب «الخزائن» المفاتيح، والأول أبين، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 14‏]‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ ‏(‏10‏)‏ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ ‏(‏11‏)‏ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ ‏(‏12‏)‏ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ ‏(‏13‏)‏ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏أم‏}‏ في هذه الآية معادلة للألف المقدرة في ‏{‏أم‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 9‏]‏ الأولى، وكأنه تعالى يقول في هذه الآية‏:‏ أم لهم هذا الملك فتكون النبوءة والرسالة على اختيارهم ونظرهم فليرتقوا في الأسباب إن كان الأمر كذلك، أي إلى السماء، قاله ابن عباس‏.‏ و‏{‏الأسباب‏}‏‏:‏ كل ما يتوصل به إلى الأشياء، وهي هنا بمعنى الحبال والسلاليم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ اراد أبواب السماء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جند من هنالك مهزوم‏}‏ اختلف المتأولون في الإشارة ب ‏{‏هنالك‏}‏ إلى ما هي‏؟‏ فقالت فرقة‏:‏ أشار إل الارتقاء في الأسباب، أي هؤلاء القوم إن راموا ذلك جند مهزوم، وهذا قوي‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الإشارة ب ‏{‏هنالك‏}‏ إلى حماية الأصنام وعضدها، أي هؤلاء القوم حند مهزوم في هذه السبيل وقال مجاهد‏:‏ الإشارة ب ‏{‏هنالك‏}‏، إلى يوم بدر، وكان غيب أعلم الله به على لسان رسوله، أي جند المشركين يهزمون، فخرج في بدر‏.‏ وقالت فرقه‏:‏ الإشارة إل حصر عام الخندق بالمدينه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من الأحزاب‏}‏ أي من جملة أجزاب الأمم الذين تعصبوا في الباطل وكذبوا الرسل فأخذهم الله تعالى‏.‏ و‏{‏ما‏}‏، في قوله‏:‏ ‏{‏جند ما‏}‏ زائدة مؤكدة وفيها تخصيص‏.‏

واختلف المتأولون في قوله‏:‏ ‏{‏ذي الأوتاد‏}‏، فقال ابن عباس وقتادة سمي بذلك لأنه كانت له أوتاد وخشب يلعب له بها وعليها‏.‏ وقال السدي‏:‏ كان يقتل الناس بالأوتاد، يسمرهم في الأرض بها‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أراد المباني العظام الثابتة، وهذا أظهر الأقوال، كما يقال للجبال أوتاد لثبوتها، ويحتمل أن يقال له ذو أوتاد عبارة عن كثرة أخبيته وعظم عساكره، ونحو من هذا قولهم‏:‏ أهل العمود‏.‏

وقرأت فرقة‏:‏ «ليكة»‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ «الأيكة»، وقد تقدم القول في شرح ذلك في سورة الشعراء، ثم أخبر تعالى أن هؤلاء المذكورين هم الأحزاب، وضرب بهم المثل لقريش في أنهم كذبوا، ثم أخبر أن عقابه حق على جميعهم، أي فكذلك يحق عليكم أيها المكذبون بمحمد وفي قراءة ابن مسعود‏:‏ «إن كل لما»‏.‏ وحكى أبو عمرو الداني إن فيها‏.‏ «إن كلهم إلا كذب»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 20‏]‏

‏{‏وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ‏(‏15‏)‏ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏16‏)‏ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ‏(‏17‏)‏ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ‏(‏18‏)‏ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ‏(‏19‏)‏ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏ينظر‏}‏ بمعنى ينتظر، وهذا إخبار من الله لرسوله صدقه الوجود، ف «الصيحة» على هذا عبارة عن جميع ما نابهم من قتل وأسر وغلبة، وهذا كما تقول‏:‏ صاح فيهم الدهر‏.‏ وقال قتادة‏:‏ توعدهم بصيحة القيامة والنفخ في الصور‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ روي هذا التفسير مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه سلم‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ توعدهم بصيحة يهلكون بها في الدنيا، وعلى هذين التأويلين فمعنى الكلام أنهم بمدرج عقوبة وتحت أمر خطير، ما ينتظرون فيه إلا الهلكة، وليس معناه التوعد بشيء معين ينتظره محمد فيه كالتأويل الأول‏.‏

وقرأ جمهور القراء‏:‏ «فَواق» بفتح الفاء‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش وأبو عبد الرحمن‏:‏ «فُواق» بضم الفاء‏.‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ هما بمعنى واحد، أي ما لها من انقطاع وعودة، بل هي متصلة حتى تهلكهم، ومنه فواق الحلب‏:‏ المهلة التي بين الشخبين‏:‏ وجعلوه مثل قصاص الشعر وقصاص وغيره ذلك، ومنه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من رابط فوق ناقة حرم الله جسده على النار» وقال ابن زيد وأبو عبيدة ومؤرج والفراء‏:‏ المعنى مختلف‏:‏ الضم كما تقدم من معنى فواق الناقة، والفتح بمعنى الإفاقة، أي ما يكون لهم بعد هذه الصيحة إفاقة ولا استراحة، ف «فواق»‏:‏ مثل جواب، من أجاب‏.‏

ثم ذكر عز وجل عنهم أنهم قالوا‏:‏ ‏{‏ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب‏}‏ والقط‏:‏ الحظ والنصيب، والقط أيضاً‏:‏ الصك والكتاب من السلطان بصلة ونحوه، ومنه قول الأعشى‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ولا الملك النعمان يوم لقيته *** بغبطته يعطي القطوط ويافق

وهو من قططت، أي قطعت‏.‏

واختلف الناس في «القط» هنا ما أرادوا به، فقال سعيد بن جبير‏:‏ أرادوا به عجل لنا نصيبنا من الخير والنعيم في دنيانا‏.‏ وقال أبو العالية والكلبي‏:‏ أرادوا عجل لنا صحفنا بإيماننا، وذلك لما سمعوا في القرآن أن الصحف تعطى يوم القيامة بالأيمان والشمائل، قالوا ذلك‏.‏ وقال ابن عباس وغيره‏:‏ أرادوا ضد هذا من العذاب ونحوه، فهذا نظير قولهم‏:‏ ‏{‏فأمطر علينا حجارة من السماء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 42‏]‏ وقال السدي، المعنى‏:‏ أرنا منازلنا في الجنة حتى نتابعك، وعلى كل تأويل، فكلامهم خرج على جهة الاستخفاف والهزء، ويدل على ذلك ما علم من كفرهم واستمر، ولفظ الآية يعطي إقراراً بيوم الحساب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اصبر على ما يقولون‏}‏ أي من هذه الأقاويل التي يريدون بها الاستخفاف ولا يلتفت إليها‏:‏ واذكر داود ذا الأيد في الدين والشرع والصدع به، فتأس به وتأيد كما تأيد، و‏:‏ ‏{‏الأيد‏}‏ القوة، وهي في داود متضمنة قوة البدن وقوته على الطاعة‏.‏ و‏{‏الأواب‏}‏ الرجاع إلى طاعة الله، وقاله مجاهد وابن زيد، وفسره السدي بالمسبح، وذكر الثعلبي أن أبا هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الزرقة يمن‏.‏

وكان داود أزرق‏.‏

وأخبر تعالى عما وهب لداود من الكرامة في أن سخر الجبال تسبح بعه، وظاهر الآية عموم الجبال‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ بل هي الجبال التي كان فيها وعندها، وتسبيح الجبال ها حقيقة‏.‏ ‏{‏والإشراق‏}‏ وقت ضياء الشمس وارتفاعها، ومنه قولهم‏:‏ أشرق ثبير، أي ادخل في الشروق، وفي هذين الوقتين كانت صلاة بني إسرائيل‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ صلاة الضحى عندنا هي صلاة الإشراق، وهي في هذه الآية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والطير‏}‏ عطف على ‏{‏الجبال‏}‏، أي وسخرنا الطير، و‏{‏محشورة‏}‏ نصب على الحال، ومعناه‏:‏ مجموعة‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ «والطيرُ محشورة» بالرفع فيهما‏.‏ والضمير في‏:‏ ‏{‏له‏}‏ قالت فرقة‏:‏ هو عائد على داود، ف ‏{‏كل‏}‏ للجبال والطير‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وشددنا ملكه‏}‏ عبارة عامة لجميع ما وهبه الله تعالى من قوة وخير ونعمة، وقد خصص بعض المفسرين في ذلك أشياء دون أشياء، فقال السدي‏:‏ بالجنود‏.‏ وقال آخرون‏:‏ بهيبة جلعها الله تعالى له‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «وشدَدنا» بتخفيف الدال الأولى، وروي عن الحسن‏:‏ «شدّدنا» بشدها على المبالغة‏.‏

و ‏{‏الحكمة‏}‏‏:‏ الفهم في الدين وجودة النظر، هذا قول فرقة‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ أراد ب ‏{‏الحكمة‏}‏ النبوءة‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ ‏{‏الحكمة‏}‏ العلم الذي لا ترده العقول‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ هي عقائد البرهان واختلف الناس في ‏{‏فصل الخطاب‏}‏، فقال ابن عباس ومجاهد والسدي‏:‏ فصل القضاء بين الناس بالحق وإصابته وفهمه‏.‏ وقال علي بن أبي طالب وشريح والشعبي‏:‏ ‏{‏فصل الخطاب‏}‏ إيجاب اليمين على المدعى عليه، والبينة على المدعي‏.‏ وقال الشعبي أيضاً وزياد‏:‏ أراد قول أما بعد، فإنه أول من قالها، والذي يعطيه لفظ الآية أن الله تعالى آتاه أنه كان إذا خاطب في نازلة فصل المعنى وأوضحه وبينه، لا يأخذه في ذلك حصر ولا ضعف، وهذه صفة قليل من يدركها، فكان كلامه عليه السلام فصلاً، وقد قال الله تعالى في صفة القرآن‏:‏ ‏{‏إنه لقول فصل‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 13‏]‏ ويزيد محمد صلى الله عليه وسلم على هذه الدرجة بالإيجاز في العبارة وجمع المعاني الكثيرة في اللفظ اليسير، وهذا هو الذي تخصص عليه السلام في قوله‏:‏ «وأعطيت جوامع الكلم» فإنها في الخلال التي لم يؤتها أحد قبله، ذكر جوامع الكلم معدودة في ذلك مسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ‏(‏21‏)‏ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ‏(‏22‏)‏ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ‏(‏23‏)‏ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

هذه مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم واستفتحت بالاستفهام تعجيباً من القصة وتفخيماً لها، لأن المعنى‏:‏ هل أتاك هذا الأمر العجيب الذي هو عبرة، فكأن هذا الاستفهام إنما هو تهيئة نفس المخاطب وإعدادها للتلقي‏.‏ و‏{‏الخصم‏}‏ جار مجرى عدل وزور، يوصف به الواحد والاثنان والجميع، ومنه قول لبيد‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وخصم يعدو الذخول كأنهم *** قروم غيارى كل أزهر مصعب

وتحتمل هذه الآية أن يكون المتسور للمحراب اثنين فقط، لأن نفس الخصومة إنما كانت بين اثنين، فتجيء الضمائر في‏:‏ ‏{‏تسوروا‏}‏ و‏:‏ ‏{‏دخلوا‏}‏ و‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ على جهة التجوز، والعبارة عن الاثنين بلفظ الجمع، ويحتمل أنه جاء مع كل فرقة، كالعاضدة والمؤنسة، فيقع على جميعهم خصم، وتجيء الضمائر حقيقة‏.‏ و‏:‏ ‏{‏تسوروا‏}‏ معناه‏:‏ علوا سوره وهو جمع سورة، وهي القطعة من البناء، هذا كما تقول‏:‏ تسنمت الحائط أو البعير، إذا علوت على سنامه‏.‏ و‏{‏المحراب‏}‏‏:‏ الموضع الأرفع من القصر أو المسجد، وهو مضوع التعبد، والعامل في‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ الأولى ‏{‏نبأ‏}‏ وقيل‏:‏ ‏{‏أتاك‏}‏‏.‏ والعامل في‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ الثانية ‏{‏تسوروا‏}‏، وقيل هي بدل من ‏{‏إذ‏}‏ الأولى وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ففزع منهم‏}‏ يحتمل أن يكون فزعه من الداخلين أنفسهم لئلا يؤذوه، وإنما فزع من حيث دخلوا من غير الباب ودون استئذان، وقيل إن ذلك كان ليلاً، ذكره الثعلبي، ويحتمل أن يكون فزعه من أين يكون أهل ملكه قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان، فيكون فزعه على فساد السيرة لا من الداخلين‏.‏ ويحتمل قولهم‏:‏ ‏{‏لا تخف‏}‏ أنهم فهموا منه عليه السلام خوفه‏.‏

وهنا قصص طول الناس فيها، واختلفت الروايات به، ولا بد أن نذكر منه ما لا يقوم تفسير الآية إلا به، ولا خلاف بين أهل التأويل أنهم إنما كانوا ملائكة بعثهم الله ضرب مثل لداود عليه السلام، فاختصموا إليه في نازلة قد وقع هو في نحوها، فأفتى بفتيا هي واقفة عليه في نازلته، ولما شعر وفهم المراد، خر وأناب واستغفر، وأما نازلته التي وقع فيها، فروي أنه عليه السلام جلس في ملإ من بني إسرائيل فأعجب بعمله، وظهر منه ما يقتضي أنه لا يخاف على نفسه الفتنة، ويقال بل وقعت له في مثل هذا مجاورة مع الملكين الحافظين عليه فقال لهما‏:‏ جرباني يوماً، فإني وإن غبتما عني لا أواقع مكروهاً‏.‏ وقال السدي‏:‏ كان داود قد قسم دهره‏:‏ يوماً يقضي فيه بين الناس، ويوماً لعبادته، ويوماً لشأن نفسه، ففتن يوم خلوه للعبادة لما تمنى أن يعطى مثل فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، والتزم أن يمتحن كما امتحنوا، وقيل في السبب غير هذا مما لا يصح تطويله‏.‏ قال ابن عباس ما معناه‏:‏ أنه أخذ داود يوماً في عبادته وانفرد في محرابه يصلي ويسبح إذ دخل عليه طائر من كوة، فوقع بين يديه، فروي أنه كان طائراً حسن الهيئة‏:‏ حمامة، فمد داود يده ليأخذه فزل مطمعاً له فما زال يتبعه حتى صعد الكوة التي دخل منها فصعد داود ليأخذه، فتنحى له الطائر، فتطلع داود عليه السلام، فإذا هو بامرأة تغتسل عريانة، فرأى منظراً جميلاً فتنه، ثم إنها شعرت به، فأسبلت شعرها على بدنها فتجللت به، فزاده ولوعاً بها، ثم إنه انصرف وسأل عنها، فأخبر أنها امرأة رجل من جنده يقال له‏:‏ أوريا وإنه في بعث كذا وكذا، فيروى أنه كتب إلى أمير تلك الحرب أن قدم فلاناً يقاتل عند التابوت، وهو موضع بركاء الحرب قلما يخلص منه أحد، فقدم ذلك الرجل حتى استشهد هنالك‏.‏

ويروى أن داود كتب أن يؤمر ذلك الرجل على جملة من الرجال، وترمى به الغارة والوجوه الصعبة من الحرب، حتى قتل في الثالثة من نهضاته، وكان لداود فيما روي تسع وتسعون امرأة، فلما جاءه الكتاب بقتل من قتل في حربه، جعل كلما سمي رجل يسترجع ويتفجع، فلما سمي الرجل قال‏:‏ كتب الموت على كل نفس، ثم إنه خطب المرأة وتزوجها، فكانت أم سليمان فيما روي عن قتادة فبعث الله تعالى إليه الخصم ليفتي بأن هذا ظلم‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ إن هذا كله هم به داود ولم يفعله، وإنما وقعت المعاتبة على همه بذلك‏.‏ وقال آخرون‏:‏ إنما الخطأ في أن لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده، إذ كان عنده أمر المرأة‏.‏

قال القاضي أبو محمد والرواة على الأول أكثر، وفي كتب بني إسرائيل في هذه القصة صور لا تليق‏.‏ وقد حدث بها قصاص في صدر هذه الأمة، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ من حدث بما قال هؤلاء القصاص في أمر داود عليه السلام جلدته حدين لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خصمان‏}‏ تقديره‏:‏ نحن خصمان، وهذا كقول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وقولا إذا جاوزتما أرض عامر *** وجاوزتما الحيين نهداً وخثعما

نزيعان من جرم ابن زبان إنهم *** أبوا أن يميروا في الهزاهز محجما

ونحوه قال العرب في مثل‏:‏ محسنة فهيلي، التقدير‏:‏ أنت محسنة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «آيبون تائبون» و‏:‏ ‏{‏بغى‏}‏ معناه‏:‏ اعتدى واستطال، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

ولكن الفتى حمل بن بدر *** بغى والبغي مرتعه وخيم

وقوله‏:‏ ‏{‏فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط‏}‏ إغلاظ على الحاكم واستدعاء بعدله، وليس هذا بارتياب منه، ومنه قول الرجل للنبي عليه السلام‏:‏ فاحكم بيننا بكتاب الله‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «ولا تُشطِط» بضم التاء وكسر الطاء الأولى، معناه‏:‏ ولا تتعد في حكمك‏.‏ وقرأ أبو رجاء وقتادة‏:‏ «تَشطُط» بفتح التاء وضم الطاء، وهي قراءة الحسن والجحدري، ومعناه‏:‏ ولا تبعد، يقال‏:‏ شط إذا بعد، وأشط إذا أبعد غيره‏.‏

وقرأ زر بن حبيش «تُشاطط» بضم التاء وبالألف‏.‏ و‏:‏ ‏{‏سواء الصراط‏}‏ معناه‏:‏ وسط الطريق ولا حبه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن هذا أخي‏}‏ إعراب أخي عطف بيان، وذلك أن ما جرى من هذه الأشياء صفة كالخلق والخلق وسائر الأوصاف، فإنه نعت محض، والعامل فيه هو العامل في الموصوف، وما كان منها مما ليس ليوصف به بتة فهو بدل، والعامل فيه مكرر، وتقول‏:‏ جاءني أخوك زيد، فالتقدير‏:‏ جاءني أخوك جاءني زيد، فاقتصر على حذف العامل في البدل والمبدل منه في قوله‏:‏ ‏{‏ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 31‏]‏ وما كان منها مما لا يوصف به واحتيج إلى أن يبين به ويجري مجرى الصفة فهو عطف بيان، وهو بين في قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

يا نصر نصراً نصرا *** فإن الرواية في الثاني بالتنوين، فدل ذلك على أن النداء ليس بمكرر عليه، فليس ببدل، وصح فيه عطف البيان، وهذه الأخوة مستعارة، إذ هما ملكان، لكن من حيث تصورا آدميين تكلما بالأخوة التي بينهما في الدين والإيمان، والله أعلم‏.‏ و«النعجة» في هذه الآية، عبر بها عن المرأة‏.‏ والنعجة في كلام العرب تقع على أنثى بقر الوحش، وعلى أنثى الضأن، وتعبر العرب بها عن المرأة، وكذلك بالشاة، قال الأعشى‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

فرميت غفلة عينه عن شاته *** فأصبت حبة قلبها وطحالها

أراد عن امرأته، وفي قراءة ابن مسعود‏:‏ «وتسعون نعجة أنثى»‏.‏ وقرأ حفص عن عاصم‏:‏ «وليَ» بفتح الياء‏.‏ وقرأ الباقون بسكونها، وهما حسنان‏.‏ وقرأ الحسن والأعرج‏:‏ «نِعجة» بكسر النون، والجمهور على فتحها‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ «تَسع وتَسعون» بفتح التاء فيهما وهي لغة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أكفلنيها‏}‏ أي ردها في كفالتي، وقال ابن كيسان، المعنى‏:‏ اجعلها كفلي، أي نصيبي‏.‏ ‏{‏وعزتي‏}‏‏:‏ معناه غلبني، ومنه قول العرب‏:‏ من عز بز، أي من غلب سلب وقرأ أبو حيوة‏:‏ «وعزني» بتخفيف الزاي‏.‏ قال أبو الفتح‏:‏ أراد عززني، فحذف الزاي الواحدة تخفيفاً كما قال أبو زيد‏:‏

أحسن به فهن إليه شوس *** قال أبو حاتم‏:‏ ورويت «عزني» بتخفيف الزاي عن عاصم‏.‏ وقرأ ابن مسعود وأبو الضحى وعبيد بن عمير‏:‏ «وعازني»، أي غالبني‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏في الخطاب‏}‏ كان أوجه مني وأقوى، فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي، وقوته أعظم من قوتي، فيروى أن داود عليه السلام لما سمع هذه الحجة قال للآخر‏:‏ ما تقول‏؟‏ فأقر وألد، فقال له داود‏:‏ لئن لم ترجع إلى الحق لأكسرن الذي فيه عيناك‏.‏ وقال للثاني‏:‏ لقد ظلمك، فتبسما عند ذلك، وذهبا ولم يرهما لحينه، فشعر حينئذ للأمر‏.‏

وروي أنهما ذهبا نحو السماء بمرأى منه‏.‏ وقيل بل بينا فعله في تلك المرأة وزوجها، وقالا له‏:‏ إنما نحن مثال لك‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ إن داود قال‏:‏ لقد ظلمك، قبل أن يسمع حجة الآخر، وهذه كانت خطيئة ولم تنزل به هذه النازلة المروية قط‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق ابن عطية رضي الله عنه‏:‏ وهذا ضعيف من جهات، لأنه خالف متظاهر الروايات، وأيضاً فقوله‏:‏ ‏{‏لقد ظلمك‏}‏ إنما معناه إن ظهر صدقك ببينة أو باعتراف، وهذا من بلاغة الحاكم التي ترد المعوج إلى الحق، وتفهمه ما عند القاضي من الفطنة‏.‏ وقال الثعلبي‏:‏ كان في النازلة اعتراف من المدعى عليه حذف اختصاراً، ومن أجله قال داود‏:‏ ‏{‏لقد ظلمك‏}‏‏.‏

وقوله عليه السلام‏:‏ ‏{‏لقد ظلمت بسؤال نعجتك‏}‏ أضاف الضمير إلى المفعول، و‏{‏الخلطاء‏}‏ الأشراك والمتعاقبون في الأملاك والأمور، وهذا القول من داود وعظ وبسط لقاعدة حق ليحذر من الوقوع في خلاف الحق‏.‏ وما في قوله‏:‏ ‏{‏وقليل ما هم‏}‏ زائدة مؤكدة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وظن داود‏}‏ معناه‏:‏ شعر للأمر وعلمه‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏ظن‏}‏ هنا بمعنى أيقن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والظن أبداً في كلام العرب إنما حقيقته توقف بين معتقدين يغلب أحدهما على الآخر، وتوقعه العرب على العلم الذي ليس على الحواس ولا له اليقين التام، ولكن يخلط الناس في هذا ويقولون ظن بمعنى‏:‏ أيقن، ولسنا نجد في كلام العرب على العلم الذي ليس على الحواس شاهداً يتضمن أن يقال‏:‏ رأى زيد كذا وكذا فظنه‏.‏ وانظر لى قوله تبارك وتعالى في كتابه‏:‏ ‏{‏ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 53‏]‏ وإلى قول دريد بن الصمة ‏[‏الطويل‏]‏

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج *** سراتهم بالفارسي المسرد

وإلى هذه الآية‏:‏ ‏{‏وظن داود‏}‏ فإنك تجد بينها وبين اليقين درجة، ولو فرضنا أهل النار قد دخلوها وباشروا، لم يقل «ظن» ولا استقام ذلك، ولو أخبر جبريل داود بهذه الفتنة لم يعبر عنها ب «ظن»، فإنما تعبر العرب بها عن العلم الذي يقارب اليقين وليس به، لم يخرج بعد إلى الإحساس وقرأ جمهور الناس‏:‏ «فَتنّاه» بفتح التاء وشد النون، أي ابتليناه وامتحناه‏.‏ وقرأ عمر بن الخطاب وأبو رجاء والحسن‏:‏ بخلاف عنه، «فتّنّاه» بشد التاء والنون على معنى المبالغة‏.‏ وقرأ أبو عمرو في رواية علي بن نصر‏:‏ «فتَنَاه» بتخفيف التاء والنون على أن الفعل للخصمين، أي امتحناه عن أمرنا، وهي قراءة قتادة‏.‏ وقرأ الضحاك‏:‏ «افتتناه»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وخر‏}‏ أي ألقى بنفسه نحو الأرض متضامناً متواضعاً، والركوع والسجود‏:‏ الانخفاض والترامي نحو الأرض، وخصصتها الشرائع على هيئات معلوم‏.‏ وقال قوم يقال‏:‏ «خر»، لمن ركع وإن كان لم ينته إلى الأرض‏.‏

وقال الحسن بن الفضل، والمعنى‏:‏ خر من ركوعه، أي سجد بعد أن كان راكعاً‏.‏ وقال أبو سعيد الخدري‏:‏ رأيتني في النوم وأنا أكتب سورة‏:‏ ‏{‏ص‏}‏ فلما بلغت هذه الآية سجد القلم، ورأيتني في منام آخر وشجرة تقرأ‏:‏ ‏{‏ص‏}‏ فلما بلغت هذا سجدت، وقالت‏:‏ اللهم اكتب لي بها أجراً، وحط عني بها وزراً، وارزقني بها شكراً، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وسجدت أنت يا أبا سعيد‏؟‏ قلت لا، قال‏:‏ أنت كنت أحق بالسجدة من الشجرة»، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات حتى بلغ‏:‏ ‏{‏وأناب‏}‏، فسجد، وقال كما قالت الشجرة‏.‏ ‏{‏وأناب‏}‏ معناه‏:‏ رجع وتاب، ويروى عن مجاهد أن داود عليه السلام بقي في ركعته تلك لاصقاً بالأرض يبكي ويدعو أربعين صباحاً حتى نبت العشب من دمعه، وروي غير هذا مما لا تثبت صحته‏.‏ وروي أنه لما غفر الله له أمر المرأة، قال‏:‏ يا رب فكيف لي بدم زوجها إذا جاء يطلبني يوم القيامة، فأوحى الله إليه أني سأستوهبه ذلك يا داود، وأجعله أن يهبه راضياً بذلك، فحينئذ سر داود عليه السلام واستقرت نفسه، وروي عن عطاء الخراساني ومجاهد أن داود عليه السلام نقش خطيئته في كفه فكان يراها دائماً ويعرضها على الناس في كل حين من خطبه وكلامه وإشاراته وتصرفه تواضعاً لله عز وجل وإقراراً، وكان يسيح في الأرض ويصيح‏:‏ إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك ارتد إلي روحي، سبحانك، إلهي أتيت أطباء الدين يداووا علتي، فكلهم عليك دلني‏.‏ وكان يدخل في صدر خطبته الاستغفار للخاطئين، وما رفع رأسه إلى السماء بعد خطيئته حياء صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء المرسلين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 29‏]‏

‏{‏فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ ‏(‏25‏)‏ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ‏(‏26‏)‏ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ‏(‏27‏)‏ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ‏(‏28‏)‏ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

«غفرنا»‏:‏ معناه سترنا، وذلك إشارة إلى الذنب المتقدم‏.‏ و‏:‏ «الزلفى»‏:‏ القربة والمكانة الرفيعة‏.‏ و«المآب»‏:‏ المرجع في الآخرة، ومن آب يؤوب إذا رجع، وبعد هذا حذف يدل عليه ظاهر الكلام، تقديره‏:‏ وقلنا له ‏{‏يا داود إنا جعلناك خليفه في الأرض‏}‏، واستدل بعض الناس من هذه الآية على احتياج الأرض إلى خليفة من الله تعالى‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق‏:‏ وليس هذا بلازم من الآية، بل لزومه من الشرع والإجماع، ولا يقال خليفة الله إلا لرسوله، وأما الخلفاء‏:‏ فكل واحد منهم خليفة الذي قبله، وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله، فذلك تجوز وغلو كما قال ابن قيس الرقيات‏:‏ ‏[‏المنسرح‏]‏

خليفة الله في بريته *** جفت بذاك الأقلام والكتب

ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم حرروا هذا المعنى فقالوا لأبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا كان يدعى مدته، فلما ولي عمر قالوا‏:‏ يا خليفة خليفة رسول الله، فطال الأمر، ورأوا أنه في المستقبل سيطول أكثر، فدعوه أمير المؤمنين، وقصر هذا الاسم على الخلفاء‏.‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد‏}‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وليتذكر أولو الألباب‏}‏ اعتراض بين الكلامين من أمر داود وسليمان، هو خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وعظة لأمته، ووعيد للكفرة به‏.‏

وقرأ أبو حيوة‏:‏ «يُضلون» بضم الياء، و‏{‏نسوا‏}‏ في هذه الآية معناه‏:‏ تركوا وأخبر تعالى أن الذين كفروا يظنون أن خلق السماء وما بينهما إنما هو باطل لا معنى له، وأن الأمر ليس يؤول إلى ثواب ولا إلى عقاب‏.‏

وأخبر تعالى عن كذب ظنهم وتوعدهم بالنار، ثم وقف تعالى على الفرق عنده بين المؤمنين العاملين بالصالحات، وبين المفسدين بالكفرة، وبين المتقين والفجار، وفي هذ التوقيف حض على الإيمان وترغيب فيه، ووعيد للكفرة‏.‏ ثم أحال في طلب الإيمان والتقوى على كتابه العزيز بقوله‏:‏ ‏{‏كتاب أنزلناه‏}‏ المعنى‏:‏ هذا كتاب لمن أراد التمسك بالإيمان والقربة إلينا، وفي هذه الآيات اقتضاب وإيجاز بديع حسب إعجاز القرآن العزيز ووصفه بالبركة لأن أجمعها فيه، لأنه يورث الجنة وينقذ من النار، ويحفظ المرء في حال الحياة الدنيا ويكون سبب رفعة شأنه في الحياة الآخرة‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «ليدّبّروا» بشد الدال والباء، والضمير للعالم‏.‏ وقرأ حفص عن عاصم‏:‏ «لتدبروا» على المخاطبة‏.‏ وقرأ أبو بكر عنه‏:‏ «لتدَبروا» بتخفيف الدال، أصله‏:‏ تتدبروا، وظاهر هذه الآية يعطي أن التدبر من أسباب إنزال القرآن، فالترتيل إذاً أفضل من الهذ، إذ التدبر لا يكون إلا مع الترتيل، وباقي الآية بين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 35‏]‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ‏(‏30‏)‏ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ‏(‏31‏)‏ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ‏(‏32‏)‏ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ‏(‏34‏)‏ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ‏(‏35‏)‏‏}‏

الهبة والعطية بمعنى واحد، فوهب الله سليمان لداود ولداً، وأثنى تعالى عليه بأوصاف من المدح تضمنها قوله‏:‏ ‏{‏نعم العبد‏}‏‏.‏ و‏{‏أواب‏}‏، معناه‏:‏ ولفظة‏:‏ ‏{‏أواب‏}‏ هو العامل في ‏{‏إذ‏}‏، لأن أمر الخيل مقتض أوبة عظيمة‏.‏

واختلف الناس في قصص هذه الخيل المعروضة، فقال الجمهور‏:‏ إن سليمان عليه السلام عرضت عليه آلاف من الخيل تركها أبوه له، وقيل‏:‏ ألف واحد فأجريت بين يديه عشاء، فتشاغل بحسنها وجريها ومحبتها حتى فاته وقت صلاة العشاء‏.‏ قال قتادة‏:‏ صلاة العصر ونحوه عن علي بن أبي طالب، فأسف لذلك، وقال‏:‏ ردوا علي الخيل‏.‏ قال الحسن‏:‏ فطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف عقراً لما كانت سبب فوت الصلاة، فأبدله الله أسرع منها‏:‏ الريح‏.‏ وقال قوم منهم الثعلبي‏:‏ كانت بالناس مجاعة ولحوم الخيل لهم حلال، فإنما عقرها لتؤكل على وجه القربة لها ونحو الهدي عندنا، ونحو هذا ما فعله أبو طلحة الأنصاري بحائطه إذ تصدق به لما دخل عليه الدبسي في الصلاة فشلغه‏.‏

و «الصافن»‏:‏ الفرس الذي يرفع إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه، وقد يفعل ذلك برجله، وهي علامة الفراهية، وأنشد الزجاج‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

ألف الصفون فلا يزال كأنه *** مما يقوم على الثلاث كسيرا

وقال أبو عبيدة‏:‏ «الصافن الذي يجمع يديه ويسويها، وأما الذي يقف على طرف السنبك فهو المخيم‏.‏ وفي مصحف ابن مسعود‏:‏» الصوافن الجياد «‏.‏ و‏{‏الجياد‏}‏ جمع جود، كثوب وثياب، وسمي به لأنه يجود بجريه‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ ‏{‏الخير‏}‏ هنا أراد به الخيل‏.‏ والعرب تسمي الخيل الخير، وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد الخيل‏:‏ أنت زيد الخير‏.‏ و‏{‏حبَّ‏}‏ منصوب على المفعول به عند فرقة، كأن ‏{‏أحببت‏}‏ بمعنى آثرت‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ المفعول ب ‏{‏أحببت‏}‏ محذوف، و‏{‏حبَّ‏}‏ نصب على المصدر، أي أحببت هذه الخيل حب الخير، وتكون ‏{‏الخير‏}‏ على هذا التأويل غير الخيل، وفي مصحف ابن مسعود‏:‏» حب الحيل «، باللام‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏أحببت‏}‏ معناه‏:‏ سقطت إلى الأرض لذنبي، مأخوذ من أحب البعير إذا أعيا وسقط هزالاً‏.‏ و‏{‏حب‏}‏ على هذا مفعول من أجله‏.‏ والضمير في ‏{‏توارت‏}‏ للشمس، وإن كان لم يجر لها ذكر صريح، لأن المعنى يقتضيها، وأيضاً فذكر العشي يقتضي لها ذكراً ويتضمنها، لأن العشي إنما هو مقدر متوهم بها‏.‏ وقال بعض المفسرين في هذه الآية‏:‏ ‏{‏حتى توارت بالحجاب‏}‏ يريد الخيل، أي دخلت اصطبلاتها‏.‏ وقال ابن عيسى والزهري‏:‏ إن مسحه بالسوق والأعناق لم يكن بالسيف، بل بيده تكريماً لها ومحبة، ورجحه الطبري‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ بل غسلاً بالماء، وقد يقال للغسل مسح، لأن الغسل بالأيدي يقترن به، وهذه الأقوال عندي إنما تترتب على نحو من التفسير في هذه الآية‏.‏

وروي عن بعض الناس، وذلك أنه رأى أن هذه القصة لم يكن فيها فوت صلاة ولا تضمن أمر الخيل أوبة ولا رجوعاً، فالعامل في‏:‏ ‏{‏إذ عرض‏}‏ فعل مضمر تقديره‏:‏ اذكر إذ عرض، وقالوا عرض على سليمان الخيل وهو في الصلاة، فأشار إليهم، أي في الصلاة، فأزالوها عنه حتى أدخلوها في الاصطبلات، فقال هو لما فرغ من صلاته‏:‏ ‏{‏أني أحببت حب الخير‏}‏ أي الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي، كأنه يقول‏:‏ فشغلني ذلك عن رؤية الخيل حتى أدخلت اصطبلاتها ‏{‏ردوها علي‏}‏ فطفق يمسح أعناقها وسوقها محبة لها، وذكر الثعلبي أن هذا المسح إنما كان وسماً في السوق والأعناق بوسم حبس في سبيل الله‏.‏ وجمهور الناس على أنها كانت خيلاً موروثة‏.‏ قال بعضهم‏:‏ قتلها حتى لم يبق منها أكثر من مائة فرس، فمن نسل تلك المائة كل ما يوجد اليوم من الخيل، وهذا بعيد‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ كانت خيلاً أخرجتها الشياطين له من البحر وكانت ذوات أجنحة‏.‏ وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كانت عشرين فرساً‏.‏ و‏{‏طفق‏}‏ معناه‏:‏ دام يقتل، كما تقول‏:‏ جعل يفعل‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «بالسوْق» بسكون الواو وهو جمع ساق‏.‏ وقرأ ابن كثير وحده‏:‏ «السؤق» بالهمز‏.‏ قال أبو علي‏:‏ وهي ضعيفة، لكن وجهها في القياس أن الضمة لما كانت تلي الواو قدر أنها عليها فهمزت كما يفعلون بالواو المضمومة، وهذا نظير إمالتهم ألف «مقلات» من حيث وليت الكسرة القاف، قدروا أن القاف هي المكسورة، ووجه همزة السوق من السماع أن إباحية النميري كان يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة، وكان ينشد‏:‏

لحب الموقدين إليَّ موسى *** وقرأ ابن محيصن‏:‏ «بالسؤوق» بهمزة بعدها الواو‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عن ذكر ربي‏}‏ فإن ‏{‏عن‏}‏ على كل تأويل هنا للمجاورة من شيء إلى شيء، وتدبره فإنه مطرد‏.‏

ثم أخبر الله تعالى عن فتنته لسليمان وامتحانه إياه لزوال ملكه، وروي في ذلك أن سليمان عليه السلام قالت له حظية من حظاياه إن أخي له خصومة، فأرغب أن تقضي له بكذا وكذا بشيء غير الحق، فقال سليمان عليه السلام‏:‏ أفعل، فعاقبه الله تعالى بأن سلط على خاتمه جنياً، وذلك أن سليمان عليه السلام كان لا يدخل الخلاء بخاتم الملك، توقيراً لاسم الله تعالى، فكان يضعه عند امرأة من نسائه، ففعل ذلك يوماً، فألقى الله شبهه على جني اسمه صخر فيما روي عن ابن عباس‏.‏ وقيل غير هذا ما اختصرناه لعدم الصحة، فجاء إلى المرأة فدفعت إليه الخاتم فاستولى على ملك سليمان، وبقي فيه أربعين يوماً، وطرح خاتم سليمان في البحر، وجعل يعبث في بني إسرائيل، وشبه سليمان عليه حتى أنكروا أفعاله، ومكنه الله تعالى من جميع الملك‏.‏

قال مجاهد‏:‏ إلا من نساء سليمان فإنه لم يكشفهن، وكان سليمان خلال ذلك قد خرج فاراً على وجهه منكراً، لا ينتسب لقوم إلا ضربوه، وأدركه جوع وفاقة فمر يوماً بامرأة تغسل حوتاً فسألها منه لجوعه، وقيل بل اشتراه فأعطته حوتين، فجعل يفتح أجوافها، وإذا خاتمه في جوف أحدهما، فعاد إليه ملكه، وتسخرت له الجن والريح من ذلك اليوم بدعوته، وفي صخر الجني، فأمر سليمان به فسيق وأطبق عليه في حجارة، وسجنه في البحر إلى يوم القيامة، فهذه هي الفتنة التي فتن سليمان عليه السلام وامتحن بها‏.‏

واختلف الناس في الجسد الذي ألقي على كرسيه، فقال الجمهور‏:‏ هو الجني المذكور، سماه ‏{‏جسداً‏}‏ لأنه كان قد تمثل في جسد سليمان وليس به‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا أصح الأقوال وأبينها معنى‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ بل ألقي على كرسيه جسد ابن له ميت‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ بل شق الولد الذي ولد له حين أقسم ليطوفن على نسائه ولم يستثن في قسمه‏.‏ وقال قوم‏:‏ مرض سليمان مرضاً كالإغماء حتى صار على كرسيه كأنه بلا روح، وهذا كله غير متصل بمعنى هذه الآية و‏{‏أناب‏}‏ معناه ارعوى وانثنى وأجاب إلى طاعة ربه، ومعنى هذا من تلك الحوبة التي وقعت الفتنة بسببها، ثم إن سليمان عليه السلام استغفر ربه واستوهبه ملكاً‏.‏

واختلف المتأولون في معنى قوله‏:‏ ‏{‏لا ينبغي لأحد من بعدي‏}‏ فقال جمهور الناس‏:‏ إراد أن يفرده بين البشر لتكون خاصة له وكرامة، وهذا هو الظاهر من قول النبي صلى الله عليه وسلم في خبر العفريت الذي عرض له في صلاته فأخذه وأراد أن يوثقه بسرية من سواري المسجد، قال‏:‏ «ثم ذكرت قول أخي سليمان‏:‏ ‏{‏رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي‏}‏ فأرسلته»، وقال قتادة وعطاء بن أبي رباح‏:‏ إنما أراد سليمان‏:‏ ‏{‏لا ينبغي لأحد من بعدي‏}‏ مدة حياتي، أي لا أسلبه ويصير إلى أحد كما صار إلى الجني‏.‏ وروي في مثالب الحجاج بن يوسف أنه لما قرأ هذه الآية قال‏:‏ لقد كان حسوداً، وهذا من فسق الحجاج‏.‏ وسليمان عليه السلام مقطوع بأنه إنما قصد بذلك قصداً براً جائزاً، لأن للإنسان أن يرغب من فضل الله فيما لا يناله أحد، لا سيما بحسب المكانة والنبوءة، وانظر أن قول عليه السلام‏:‏ ‏{‏ينبغي‏}‏ إنما هي لفظة محتملة ليست بقطع في أنه لا يعطي الله نحو ذلك الملك لأحد، ومحمد صلى الله عليه وسلم لو ربط الجني لم يكن ذلك نقصاً لما أوتيه سليمان، لكن لما كان فيه بعض الشبه تركه جرياً منه عليه السلام على اختياره أبداً أيسر الأمرين وأقربهما إلى التواضع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 40‏]‏

‏{‏فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ‏(‏36‏)‏ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ‏(‏37‏)‏ وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ‏(‏38‏)‏ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏39‏)‏ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قرأ الحسن وأبو رجاء‏:‏ «الرياح»، والجمهور على الإفراد‏.‏

وسخر الله تعالى الريح لسليمان وكان له كرسي عظيم يقال يحمل أربعة آلاف فارس، ويقال أكثر، وفيه الشياطين وتظله الطير، وتأتي عليه الريح الإعصار فتقله من الأرض حتى يحصل في الهواء يتولاه الرخاء، وهي اللينة القوية المتشابهة لا يتأتي فيها دفع مفرطة فتحمله غدوها شهر ورواحها شهر، و‏{‏حيث أصاب‏}‏ حيث أراد، قاله وهب وغيره، وأنشد الثعلبي‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

أصاب الكلام فلم يستطع *** فأخطى الجواب لدى المفصل

ويشبه أن ‏{‏أصاب‏}‏ معدى‏:‏ صاب يصوب، أي حيث وجه جنوده وجعلهم يصوبون صوب السحاب والمطر‏.‏ قال الزجاج معناه‏:‏ قصد، وكذلك قولك للمتكلم أصبت‏:‏ معناه قصدت الحق وقوله‏:‏ ‏{‏كل بناء‏}‏ بدل من ‏{‏الشياطين‏}‏، والمعنى‏:‏ كل من بنى مصانعه للحروب‏.‏ و‏{‏مقرنين‏}‏ معناه‏:‏ موثقين قد قرن بعضهم ببعض و‏{‏الأصفاد‏}‏ القيود والأغلال‏.‏

واختلف الناس في المشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏هذا عطاؤنا‏}‏ فقال قتادة‏:‏ أشار إلى ما فعله بالجن ‏{‏فامنن‏}‏ على من شئت منهم وأطلقه من وثاقه وسرحه من خدمته ‏{‏أو أمسك‏}‏ أمره كما تريد وقال ابن عباس‏:‏ أشار إلى ما وهبه من النساء وأقدره عليه من جماعهن‏.‏ وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ أشار إلى جميع ما أعطاه من الملك وأمره بأن يمن على من يشاء ويمسك عمن يشاء، فكأنه وقفه على قدر النعمة ثم أباح له التصرف فيه بمشيئته، وهو تعالى قد علم منه أن مشيئته عليه السلام إنما تتصرف بحكم الطاعة الله، وهذا أصح الأقوال ‏(‏وأجمعها لتفسر الآية‏)‏، وباقي الآية بين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ‏(‏41‏)‏ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ‏(‏42‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏43‏)‏ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏أيوب‏}‏ هو نبي من بني إسرائيل من ذرية يعقوب عليه السلام، وهو نبي ابتلي في جسده وماله وأهله، وسلم دينه ومعتقده، وروي في ذلك أن الله سلط الشيطان عليه ليفتنه عن دينه، فأصابه في ماله، وقال له‏:‏ إن أطعتني رجع مالك، فلم يطعه، فأصابه في أهله وولده، فهلكوا من عند آخرهم، وقال له‏:‏ لو أطعتني رجعوا، فلم يطعه، فأصابه في جسده، فثبت أيوب على أمر الله سبع سنين وسبعة أشهر، قاله قتادة‏.‏ وروى أنس عن النبي عليه السلام أن أيوب بقي في محنته ثماني عشر سنة يتساقط لحمه حتى مله العالم، ولم يصبر عليه إلا امرأته‏.‏ وروي أن السبب الذي امتحن الله أيوب من أجله هو‏:‏ أنه دخل على بعض الملوك فرأى منكراً فلم يغيره‏.‏ وروي أن السبب‏:‏ كان أنه ذبح شاة وطبخها وأكلت عنده، وجار له جائع لم يعطه منها شيئاً‏.‏ وروي أن أيوب لما تناهى بلاؤه وصبره، مر به رجلان ممن كان بينه وبينهما معرفة فتقرعاه، وقالا له‏:‏ لقد أذنبت ذنباً ما أذنب أحد مثله، وفهم منهما شماتاً به، فعند ذلك دعا ونادى ربه‏.‏

وقوله عليه السلام‏:‏ ‏{‏مسني الشيطان‏}‏ يحتمل أن يشير إلى مسه حين سلطه الله عليه حسبما ذكرنا، ويحتمل أن يريد‏:‏ مسه إياه حين حمله في أول الأمر على أن يواقع الذنب الذي من أجله كانت المحنة، إما ترك التغيير عند الملك، وإما ترك مواساة الجار‏.‏ وقيل أشار إلى مسه إياه في تعرضه لأهله وطلبه منه أن يشرك بالله، فكان أيوب يتشكى هذا الفعل، وكان أشد عليه من مرضه‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «أني» بفتح الهمزة‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر‏:‏ «إني» بكسرها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أني‏}‏ في موضع نصب بإسقاط حرف الجر‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «بنُصْب» بضم النون وسكون الصاد‏.‏ وقرأ هبيرة عن حفص عن عاصم‏:‏ «بنَصَب» بفتح النون والصاد، وهي قراءة الجحدري ويعقوب، ورويت عن الحسن وأبي جعفر‏.‏ وقرأ أبو عمارة عن حفص عن عاصم‏:‏ «بنُصُب» بضم النون والصاد، وهي قراءة أبي جعفر بن القعقاع والحسن بخلاف عنه، وروى أيضاً هبيرة عن حفص عن عاصم بفتح النون وسكون الصاد، وذلك كله بمعنى واحد، معناه المشقة، وكثيراً ما يستعمل النصب في مشقة الإعياء، وفرق بعض الناس بين هذه الألفاظ، والصواب أنها لغات بمعنى، من قولهم أنصبني الأمر ونصبني إذا شق علي، فمن ذلك الشاعر ‏[‏الطويل‏]‏

تبغاك نصب من أميمة منصب *** ومثله قول النابغة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

كليني لهمٍّ يا أميمة ناصب *** قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد قيل في هذا البيت إن ناصباً بمعنى منصب، وأنه على النسب، أي ذا نصب، وهنا في الآية محذوف كثير، تقديره‏:‏ فاستجاب له‏.‏

وقال ‏{‏اركض برجلك‏}‏ والركض‏:‏ الضرب بالرجل، والمعنى‏:‏ اركض الأرض‏.‏ وروي عن قتادة أن هذا الأمر كان في الجابية من أرض الشام‏.‏ وروي أن أيوب أمر بركض الأرض فيها، فنبعت له عين ماء صافية باردة فشرب منها، فذهب كل مرض في داخل جسده، ثم اغتسل فذهب ما كان في ظاهر بدنه‏.‏ وروي أنه ركض مرتين ونبع له عينان‏:‏ شرب من إحداهما، واغتسل في الأخرى وقرأ نافع وشيبة وعاصم والأعمش‏.‏ «بعذاب اركض»، بضم نون التنوين‏.‏ وقرأ عامة قراء البصرة‏:‏ «بعذاب اركض»، بنون مكسورة و‏:‏ ‏{‏مغتسل‏}‏ معناه‏:‏ موضع غسل، وماء غسل، كما تقول‏:‏ هذا الأمر معتبر، وهذا الماء مغتسل مثله‏.‏ وروي أن الله تعالى وهب له أهله وماله في الدنيا، ورد من مات منهم، وما هلك من ماشيته وحاله ثم بارك في جميع ذلك، وولد له الأولاد حتى تضاعف الحال‏.‏ وروي أن هذا كله وعد في الآخرة، أي يفعل الله له ذلك في الآخرة، والأول أكثر في قول المفسرين‏.‏ و‏{‏رحمة‏}‏ نصب على المصدر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وذكرى‏}‏ معناه‏:‏ موعظة وتذكرة يعتبر بها أهل العقول ويتأسون بصبره في الشدائد ولا ييأسون من رحمة الله على حال‏.‏ وروي أن أيوب عليه السلام كانت زوجته مدة مرضه تختلف إليه، فيلقاها الشيطان في صورة طبيب، ومرة في هيسة ناصح وعلى غير ذلك، فيقول لها‏:‏ لو سجد هذا المريض للصنم الفلاني لبرئ، لو ذبح عناقاً للصنم الفلاني لبرئ ويعرض عليها وجوهاً من الكفر، فكانت هي ربما عرضت ذلك على أيوب، فيقول لها‏:‏ ألقيت عدو الله في طريقك‏؟‏ فلما أغضبته بهذا ونحوه، حلف لها لئن برئ من مرضه ليضربنها مائة سوط، فلما برئ أمره الله أن يأخذ ضغثاً فيه مائة قضيب‏.‏ و«الضغث» القبضة الكبيرة من القضبان ونحوها من الشجرة الرطب، قاله الضحاك وأهل اللغة فيضرب به ضربة واحدة فتبر يمينه، ومنه قولهم‏:‏ ضغث على إبالة‏.‏ والإبالة‏:‏ الحزم من الحطب‏.‏ و«الضغث»‏:‏ القبضة عليها من الحطب أيضاً، ومنه قول الشاعر ‏[‏عوف بن الخرع‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وأسفل مني نهدة قد ربطتها *** وألقيت ضغثاً من خلى متطبب

ويروى متطيب‏.‏ هذا حكم قد ورد في شرعنا عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله في حد زنا لرجل زمن، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذق نخلة فيها شماريخ مائة أو نحوها، فضرب به ضربة، ذكر الحديث أبو داود، وقال بهذا بعض فقهاء الأمة، وليس يرى ذلك مالك بن أنس وجميع أصحابه، وكذلك جمهور العلماء على ترك القول به، وأن الحدود والبر في الأيمان لا يقع إلا بإتمام عدد الضربات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 54‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ‏(‏45‏)‏ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ‏(‏46‏)‏ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ‏(‏47‏)‏ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ ‏(‏48‏)‏ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ ‏(‏49‏)‏ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ ‏(‏50‏)‏ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ‏(‏51‏)‏ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ‏(‏52‏)‏ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏53‏)‏ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قرأ ابن كثير‏:‏ «واذكر عبدنا» على الإفراد، وهي قراءة ابن عباس وأهل مكة‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ «واذكر عبادنا» على الجمع، فأما على هذه القراءة فدخل الثلاثة في الذكر وفي العبودية، وأما على قراءة من قرأ «عبدنا»، فقال مكي وغيره‏:‏ دخلوا في الذكر ولم يدخلوا في العبودية إلا من غير هذه الآية وفي هذا نظر‏.‏

وتأول قوم من المتأولين من هذه الآية أن الذبيح ‏{‏إسحاق‏}‏ من حيث ذكره الله بعقب ذكر أيوب أنبياء امتحنهم بمحن كما امتحن أيوب، ولم يذكر إسماعيل لأنه ممن لم يمتحن، وهذا ضعيف كله وقرأ الجمهور‏:‏ «أولي الأيدي»‏.‏

وقرأ الحسن والثقفي والأعمش وابن مسعود‏:‏ «أولي الأيد»، بحذف الياء، فأما أولو فهو جمع ذو، وأما القراءة الأولى ف «الأيدي» فيها عبارة عن القوة في طاعة الله، قاله ابن عباس ومجاهد، وقالت فرقة بل هي عبارة عن القوة في طاعة الله، قاله ابن عباس ومجاهد، وقالت فرقة بل هي عبارة عن إحسانهم في الدين وتقديمهم عند الله تعالى أعمال صدق، فهي كالأيادي‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ بل معناه‏:‏ أولي الأيد والنعم التي أسداها الله إليهم من النبوءة والمكانة‏.‏ وقال قوم المعنى‏:‏ أيدي الجوارح، والمراد الأيدي المتصرفة في الخير والأبصار الثاقبة فيه، لا كالتي هي منهملة في جل الناس، وأما من قرأ «الأيد» دون ياء فيحتمل أن يكون معناها معنى القراءة بالياء وحذفت تخفيفاً، ومن حيث كانت الألف واللام تعاقب التنوين وجب أن تحذف معها كما تحذف مع التنوين‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ معنى «الأيدي»، القوة، والمراد طاعة الله تعالى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والأبصار‏}‏ عبارة عن البصائر، أي يبصرون الحقائق وينظرون بنور الله تعالى، وبنحو هذا فسر الجميع‏.‏

وقرأ نافع وحده‏:‏ «إنا أخلصناهم بخالصةِ ذكرى الدار» على إضافة «خالصةِ» إلى ‏{‏ذكرى‏}‏، وهي قراءة أبي جعفر والأعرج وشيبة‏.‏ وقرأ الباقون والناس‏:‏ «بخالصةٍ ذكر الدار» على تنوين «خالصة»، وقرأ الأعمش‏:‏ «بخالصتهم ذكر الدار»، وهي قراءة طلحة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بخالصة‏}‏ يحتمل أن يكون خالصة اسم فاعل كأنه عبر بها عن مزية أو رتبة، فأما من أضافها إلى «ذكرى»، ف ‏{‏ذكرى‏}‏ مخفوض بالإضافة، ومن نون «خالصةٍ»، ف ‏{‏ذكرى‏}‏ بدل من «خالصة»، ويحتمل قوله‏:‏ ‏{‏بخالصة‏}‏ أن يكون «خالصة» مصدراً كالعاقبة وخائنة الأعين وغير ذلك، ف ‏{‏ذكرى‏}‏ على هذا ما أن يكون في موضع نصب بالمصدر على تقدير‏:‏ ‏{‏إنا أخلصناهم‏}‏ بأن أخلصنا لهم ذكرى الدار، ويكون «خالصة» مصدراً من أخلص على حذف الزوائد، وإما أن يكون ‏{‏ذكرى‏}‏ في موضع رفع بالمصدر على تقدير ‏{‏إنا أخلصناهم‏}‏ بأن خلصت لهم ذكرى الدار، وتكون «خالصة» من خلص‏.‏

و ‏{‏الدار‏}‏ في كل وجه في موضع نصب ب ‏{‏ذكرى‏}‏، و‏{‏ذكرى‏}‏ مصدر، وتحتمل الآية أن يريد ب ‏{‏الدار‏}‏ دار الآخر على معنى ‏{‏أخلصناهم‏}‏، بأن خلص لهم التذكير بالدار الآخرة ودعاء الناس إليها وحضهم عليها، وهذا قول قتادة، وعلى معنى خلص لهم ذكرهم للدار الآخرة وخوفهم لها والعمل بحسب قول مجاهد‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ المعنى إنا وهبناهم أفضل ما في الدار الآخرة وأخلصناهم به وأعطيناهم إياه، ويحتمل أن يريد ب ‏{‏الدار‏}‏ دار الدنيا على معنى ذكر الثناء والتعظيم من الناس والحمد الباقي الذي هو الخلد المجازي، فتجيء الآية في معنى قوله‏:‏ ‏{‏لسان صدق‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 50، الشعراء‏:‏ 84‏]‏ وفي معنى قوله‏:‏ ‏{‏وتركنا عليه في الآخرين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 78، 108، 119، 129‏}‏‏.‏ و‏{‏المصطفين‏}‏ أصله‏:‏ المصطفيين، تحركت الياء وما قبلها مفتوح فانقلبت ألفاً، ثم اجتمع سكون الألف وسكون الياء التي هي علامة الجمع، فحذفت الألف‏.‏ و‏{‏الأخيار‏}‏ جمع خير، وخير‏:‏ مخفف من خير كميت وميت‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ «والليسع»، كأنه أدخل لام التعريف على ‏{‏اليسع‏}‏، فأجراه مجرى ضيغم ونحوه، وهي قراءة علي بن أبي طالب والكوفيين‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ «واليسع»، قال أبو علي‏:‏ الألف واللام فيه زائدتان غير معرفتين كما هي في قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

ولقد جنيتك أكمؤاً وعساقلاً *** ولقد نهيتك عن بنات الأوبر

وبنات الأوبر‏:‏ ضرب من الكمأة‏.‏ واختلف في نبوة «ذي الكفل»، وقد تقدم تفسير أمره وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا ذكر‏}‏ يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما أن يشير إلى مدح من ذكر وإبقاء الشرف له، فيتأيد بهذا التأويل قول من قال آنفاً‏:‏ إن ‏{‏الدار‏}‏ يراد بها الدار الدنيا‏.‏ والثاني‏:‏ أن يشير بهذا إلى القرآن، إذ هو ذكر للعالم‏.‏ و«المآب»‏:‏ المرجع حيث يؤوبون‏.‏ و‏{‏جنات‏}‏ بدل من «حسن» و‏{‏مفتحة‏}‏ نعت للجنات‏.‏ و‏{‏الأبواب‏}‏ مفعول لم يسم فاعله، والتقدير عند الكوفيين‏:‏ مفتحة لهم أبوابها، ولا يجوز ذلك عند أهل البصرة، والتقدير عندهم‏:‏ الأبواب منها، وإنما دعا إلى هذا الضمير أن الصفة لا بد أن يكون فيها عائداً على الموصوف‏.‏ و‏{‏قاصرات الطرف‏}‏ قال قتادة معناه‏:‏ على أزواجهن‏.‏ و‏{‏أتراب‏}‏ معناه أمثال، وأصله في بني آدم أن تكون الأسنان واحدة، أي مست أجسادهم التراب في وقت واحد‏.‏

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ «يوعدون» بالياء من تحت، واختلفا في سورة‏:‏ ‏(‏ق‏)‏، فقرأها أبو عمرو بالتاء من فوق‏.‏ وقرأ الباقون في السورتين بالتاء من فوق‏.‏ والنفاذ‏:‏ الفناء والانقضاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 61‏]‏

‏{‏هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ ‏(‏55‏)‏ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏56‏)‏ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ‏(‏57‏)‏ وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ‏(‏58‏)‏ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ‏(‏59‏)‏ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ‏(‏60‏)‏ قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ‏(‏61‏)‏‏}‏

التقدير‏:‏ الأمر هذا، ويحتمل أن يكون التقدير‏:‏ هذا واقع ونحوه‏.‏ والطاغي‏:‏ المفرط في الشر، مأخوذ من طغا يطغى، والطغيان هنا في الكفر‏.‏ و«المآب»‏:‏ المرجع، و‏{‏جهنم‏}‏ بدل من قولهم‏:‏ ‏{‏لشر‏}‏‏.‏ و‏{‏يصلونها‏}‏ معناه‏:‏ يباشرون حرها‏.‏ و‏{‏المهاد‏}‏ ما يفترشه الإنسان ويتصرف فيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هذا فليذوقوه‏}‏ يحتمل أن يكون ‏{‏هذا‏}‏ ابتداء، والخبر ‏{‏حميم‏}‏ ويحتمل أن يكون التقدير‏:‏ الأمر هذا فليذوقوه، ويحتمل أن يكون في موضع نصب بفعل يدل عليه ‏{‏فليذوقوه‏}‏ و‏{‏حميم‏}‏ على هذا خبر ابتداء مضمر‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ الحميم، دموعهم تجتمع في حياض فيسقونها وقرأ جمهور الناس‏:‏ «وغساق» بتخفيف السين، وهو اسم بمعنى السائل، يروى عن قتادة أنه ما يسيل من صديد أهل النار‏.‏ ويروى عن السدي أنه ما يسيل من عيونهم‏.‏ ويروى عن كعب الأحبار أنه ما يسيل من حمة عقارب النار، وهي يقال مجتمعة عندهم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هو أشد الأشياء برداً‏.‏ وقال عبد الله بن بريدة‏:‏ هو أنتن الأشياء، ورواه أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم‏:‏ «وغسّاق» بتشديد السين، بمعنى سيال وهي قراءة قتادة وابن أبي إسحاق وابن وثاب وطلحة، والمعنى فيه على ما قدمناه من الاختلاف غير أنها قراءة تضعف، لأن غساقاً إما أن يكون صفة فيجيء في الآية حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، وذلك غير مستحسن هنا، وأما أن يكون اسماً، فالأسماء على هذا الوزن قليلة في كلام العرب كالفياد ونحوه وقرأ جمهور الناس‏:‏ «وآخر» بالإفراد، وهو رفع بالابتداء، واختلف في تقديره خبره، فقالت طائفة تقديره‏:‏ ولهم عذاب آخر‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ خبره‏:‏ ‏{‏أزواج‏}‏ لأن قوله‏:‏ ‏{‏أزواج‏}‏ ابتداء و‏{‏من شكله‏}‏ خبره، والجملة خبر «آخر»‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ خبره‏:‏ ‏{‏أزواج‏}‏، و‏{‏من شكله‏}‏ في موضع الصفة‏.‏ ومعنى ‏{‏من شكله‏}‏‏:‏ من مثله وضربه، وجاز على هذا القول أن يخبر الجمع الذي هو أزواج عن الواحد من حيث ذلك الواحد درجات ورتب من العذاب وقوى وأقل منه‏.‏ وأيضاً فمن جهة أخرى على أن يسمى كل جزء من ذلك الآخر باسم الكل، قالوا‏:‏ عرفات لعرفة‏:‏ وشابت مفارقه فجعلوا كل جزء من المفرق مفرقاً، وكما قالوا‏:‏ جمل ذو عثانين ونحو هذا، ألا ترى أن جماعة من المفسرين قالوا إن هذا الآخر هو الزمهرير، فكأنهم جعلوا كل جزء منه زمهريراً‏.‏

وقرأ أبو عمرو وحده‏:‏ «وأخر» على الجمع، وهي قراءة الحسن ومجاهد والجحدري وابن جبير وعيسى، وهو رفع بالابتداء وخبره ‏{‏أزواج‏}‏، و‏{‏من شكله‏}‏ في موضع الصفة، ورجح أبو عبيد هذه القراءة وأبو حاتم بكون الصفة جمعاً، ولم ينصرف «أخر» لأنه معدول عن الألف واللام صفة، وذلك أن حق أفعل وجمعه أن لا يستعمل إلا بالألف واللام، فلما استعملت «أخر» دون الألف واللام كان ذلك عدلاً لها، وجاز في «أخر» أن يوصف بها النكرة كقوله تعالى‏:‏

‏{‏فعدة من أيام أخر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184- 185‏]‏ بخلاف جمع ما عدل عن الألف واللام، كسحر ونحوه في أنه لا يجوز أن يوصف به النكرة، لأن هذا العدل في «أخر» اعتد به في منع الصرف ولم يعتد به في الامتناع من صفة النكرة كما يعتدون بالشيء في حكم دون حكم، نحو اللام في قولهم‏:‏ لا أبا لك، لأن اللام المتصلة بالكاف اعتد بها فاصلة للإضافة، ولذلك جاز دخول لا، ولم يعتد بها في أن أعرب أبا بالحروف وشأنه إذا انفصل ولم يكن مضافاً أن يعرب بالحركات فجاءت اللام ملغاة الحكم من حيث أعرب بالحرف، كأنه مضاف وهي معتد بها فاصلة في أن جوزت دخول لا‏.‏

وقرأ مجاهد‏:‏ «من شِكله» بكسر الشين‏.‏ و‏{‏أزواج‏}‏ معناه‏:‏ أنواع، والمعنى لهم حميم وغساق وأغذية أخر من ضرب ما ذكره ونحوه أنواع كثيرة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا فوج‏}‏ هو ما يقال لأهل النار إذا سيق عامة الكفار وأتباعهم لأن رؤساءهم يدخلون النار أولاً، والأظهر أن قائل ذلك لهم ملائكة العذاب، وهو الذي حكاه الثعلبي وغيره، ويحتمل أن يكون ذلك من قول بعضهم لبعض، فيقول البعض الآخر‏:‏ ‏{‏لا مرحباً بهم‏}‏ أي لا سعة مكان ولا خير يلقونه‏.‏ والفوج‏:‏ الفريق من الناس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل أنتم لا مرحباً بكم‏}‏ حكاية لقول الأتباع حين سمعوا قول الرؤساء‏:‏ ‏{‏أنتم قدمتموه‏}‏ معناه بإغوائكم، أسلفتم لنا ما أوجب هذا، فكأنكم فعلتم بنا هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قالوا ربنا‏}‏ حكاية لقول الأتباع أيضاً دعوا على رؤسائهم بأن يكون عذابهم مضاعفاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 66‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ ‏(‏62‏)‏ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ‏(‏63‏)‏ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ‏(‏64‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏65‏)‏ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ‏(‏66‏)‏‏}‏

الضمير في‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ لأشراف الكفار ورؤسائهم، أخبر الله عنهم أنهم يتذكرون إذا دخلوا النار لقوم من مستضعفي المؤمنين فيقولون هذه المقالة، وهذا مطرد في كل أمة جاءها رسول‏.‏ وروي أن القائلين من كفار عصر النبي عليه السلام هم أبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأهل القليب ومن جرى مجراهم، قاله مجاهد وغيره، والمعنى‏:‏ كنا نعدهم في الدنيا أشراراً لا خلاق لهم، وأمال الراء ‏{‏من الأشرار‏}‏‏:‏ أبو عمرو وابن عامر والكسائي، وفتحها ابن كثير وعاصم، وأشم نافع وحمزة‏.‏

وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏أتخذناهم سخرياً‏}‏ بألف الاستفهام، ومعناها‏:‏ تقرير أنفسهم على هذا على جهة التوبيخ لها والأسف، أي أتخذناهم سخرياً ولم يكونوا كذلك، واستبعد معنى هذه القراءة أبو علي‏.‏ وقرأ نافع وحمزة والكسائي‏:‏ «سُخريا» بضم السين، وهي قراءة الأعرج وشيبة وأبي جعفر وابن مسعود وأصحابه ومجاهد والضحاك، ومعناها‏:‏ من السخرة والاستخدام‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ «سِخرياً» بكسر السين وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وعيسى وابن محيصن ومعناها المشهور من السخر الذي هو الهزء، ومنه قول الشاعر ‏[‏عامر بن الحارث‏]‏‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

إني أتاني لسان لا أسر بها *** من علو لا كذب فيها ولا سخر

وقالت فرقة يكون كسر السين من التسخير‏.‏

و ‏{‏أم‏}‏ في قولهم‏:‏ ‏{‏أم زاغت‏}‏ معادلة ل ‏{‏ما‏}‏ في قولهم‏:‏ ‏{‏ما لنا لا نرى‏}‏ وذلك أنها قد تعادل ‏{‏ما‏}‏، وتعادل من، وأنكر بعض النحويين هذا، وقال‏:‏ إنها لا تعادل إلا الألف فقط‏.‏ والتقدير في هذه الآية‏:‏ أمفقودون هم أم زاغت‏؟‏ ومعنى هذا الكلام‏:‏ أليسوا معنا أم هم معنا‏؟‏ ولكن أبصرنا تميل عنهم فلا تراهم، والزيغ‏:‏ الميل‏.‏

ثم أخبر الله تعالى نبيه بقوله‏:‏ ‏{‏إن ذلك لحق تخاصم أهل النار‏}‏ و‏:‏ ‏{‏تخاصم‏}‏ بدل من قوله‏:‏ ‏{‏لحق‏}‏‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ «تخاصمَ» بفتح الميم‏.‏ وقرأ ابن محيصن‏:‏ «تخاصمٌ» بالتنوين «أهلُ النار» برفع اللام‏.‏

ثم أمر نبيه أن يتجرد للكفار من جيمع الأغراض، إلا أنه منذر لهم، وهذا توعد بليغ محرك للنفوس، وباقي الآية بين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 74‏]‏

‏{‏قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ‏(‏67‏)‏ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ‏(‏68‏)‏ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏69‏)‏ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏70‏)‏ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ‏(‏71‏)‏ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ‏(‏72‏)‏ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ‏(‏73‏)‏ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هو نبأ عظيم‏}‏ إلى التوحيد والمعاد، فهي إلى القرآن وجميع ما تضمن، وعظمه أن التصديق به نجاة، والتكذيب به هلكة‏.‏ وحكى الطبري‏:‏ أن شريحاً اختصم إليه أعرابي فشهد عليه، فأراد شريح أن ينفذ الحكم، فقال له الأعرابي‏:‏ أتحكم بالنبأ‏؟‏ فقال شريح‏:‏ نعم، إن الله يقول‏:‏ ‏{‏قل هو نبأ‏}‏، وقرأ الآية حكم عليه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا الجواب من شريح إنما هو بحسب لفظ الأعرابي ولم يحرر معه الكلام، وإنما قصد إلى ما يقطعه به، لأن الأعرابي لم يفرق بين الشهاد والنبأ‏.‏

والنبأ في كلام العرب بمعنى‏:‏ الخبر، ووبخهم بقوله‏:‏ ‏{‏أنتم عنه معرضون‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون‏}‏ وهذا احتجاج لصحة أمر محمد صلى الله عليه وسلم كأنه يقول‏:‏ هذا أمر خطر وأنتم تعرضون عنه مع صحته، ودليل صحته أني أخبركم فيه بغيوب لم تأت إلا من عند الله، فإني لم يكن لي علم بالملأ الأعلى، أراد به الملائكة‏.‏ والضمير في‏:‏ ‏{‏يختصمون‏}‏ عند جمهور المفسرين هو للملائكة‏.‏

واختلف الناس في الشيء الذي هو اختصامهم فيه، فقالت‏:‏ فرقة اختصامهم في أمر آدم وذريته في جعلهم في الأرض، ويدل على ذلك ما يأتي من الآيات، فقول الملائكة‏:‏ ‏{‏أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ هو الاختصام، وقالت فرقة‏:‏ بل اختصامهم في الكفارات وغفر الذنوب ونحوه، فإن العبد إذا فعل حسنة اختلف الملائكة في قدر ثوابه في ذلك حتى يقضي الله بما شاء، وورد في هذا حديث فسره ابن فورك، لأنه يتضمن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ربه عز وجل في نومه‏:‏ فيم يختصمون‏؟‏ فقلت لا أدري، فقال في الكفارات، وهي إسباغ الوضوء في السبرات ونقل الخطى إلى الجماعات الحديث بطوله قال‏:‏ فوضع الله يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فتفسير هذا الحديث أن اليد هي نعمة العلم‏.‏

وقوله‏:‏ بردها، أي السرور بها والثلج، كما تقول العرب في الأمر السار‏:‏ يا برده على الكبد ونحو هذا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الصلاة بالليل هي الغنيمة الباردة» أي السهلة التي يسر بها الإنسان‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏بالملإ الأعلى‏}‏ الملائكة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إذ يختصمون‏}‏ مقطوع منه معناه‏:‏ إذ تختصم العرب الكافر في الملإ فيقول بعضها هي بنات الله، ويقول بعضها‏:‏ هي آلهة تعبد، وغير ذلك من أقوالهم، وقالت فرقة‏:‏ أراد ب «الملأ الأعلى» قريشاً‏.‏ وهذا قول ضعيف لا يتقوى من جهة‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «ألا أنما» بفتح الألف، كأنه يقول‏:‏ ألا إنذار‏.‏

وقرأ أبو جعفر «إلا أنما أنا» على الحكاية، كأنه قيل له‏:‏ أنت نذير مبين، فحكى هذا المعنى، وهذا كما يقول إنسان‏:‏ أنا عالم، فيقال له‏:‏ قلت إنك عالم، فيحكي المعنى‏.‏

و‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إذ قال ربك‏}‏ بدل من قوله‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ الأولى على تأويل من رأى الخصومة في شأن من يستخلف في الأرض، وعلى الأقوال الأخر يكون العامل في ‏{‏إذ‏}‏ الثانية فعل مضمر تقديره‏:‏ واذكر إذ قال‏.‏ والبشر المخلوق من الطين‏.‏ هو آدم عليه السلام و‏:‏ ‏{‏سويته‏}‏ يريد به شخصه‏.‏ ‏{‏ونفخت‏}‏ هي عبارة عن إجراء الروح فيه، هي عبارة على نحو ما يفهم من إجراء الأشياء بالنفخ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من روحي‏}‏ هي إضافة ملك إلى مالك، لأن الأرواح كلها هي ملك لله تعالى، وأضاف إلى نفسه تشريفاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ساجدين‏}‏ اختلف الناس فيه، فقالت فرقة‏:‏ على السجود المتعارف‏.‏ وقالت فرقة معناه‏:‏ خاضعين على أصول السجود في اللغة‏.‏ ثم أخبر تعالى أن الملائكة بأمره سجدوا ‏{‏إلا إبليس‏}‏ فإنه ‏{‏استكبر‏}‏ عن السجود‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان من الكافرين‏}‏ يحتمل أن يريد به‏:‏ وكان من أول أمره من الكافرين في علم الله تعالى، قاله ابن عباس، ويحتمل أن يريد‏:‏ ووجد عند هذه الفعلة من الكافرين، وعلى القولين فقد حكم الله على إبليس بالكفر، وأخبر أنه كان عقد قلبه في وقت الامتناع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 81‏]‏

‏{‏قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ‏(‏75‏)‏ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ‏(‏76‏)‏ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ‏(‏77‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏78‏)‏ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏79‏)‏ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏80‏)‏ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ‏(‏81‏)‏‏}‏

القائل لإبليس هو الله عز وجل، وقوله ‏{‏ما منعك‏}‏ تقرير وتوبيخ‏.‏

وقرأ عاصم والجحدري‏:‏ «لَمَّا خلقت» بفتح اللام من‏:‏ «لَمَّا» وشد الميم‏.‏

وقرأ جمهور الناس «بيديْ» بالتثنية‏.‏ وقرأ فرقة‏:‏ «بيديَّ» بفتح الياء، وقد جاء في كتاب الله‏:‏ ‏{‏مما عملت أيدينا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 71‏]‏ بالجمع‏.‏

وهذه كلها عبارة عن القدرة والقوة، وعبر عن هذا المعنى بذكر اليد تقريباً على السامعين، إذا المعتاد عند البشر أن القوه والبطش والاقتدار إنما هو باليد، وقد كانت جهالة العرب بالله تعالى تقتضي أن تنكر نفوسها أن يكون خلق بغير مماسة، ونحو هذا من المعاني المعقولة، وذهب القاضي ابن الطيب إلى أن اليد والعين والوجه صفات ذات زائدة على القدرة والعلم غير ذلك من متقرر صفاته تعالى، وذلك قول مرغوب عنه ويسميها الصفات الخبرية‏.‏ وروي في بعض الآثار أن الله تعالى خلق أربعة أشياء بيده وهي‏:‏ العرش والقلم وجنة عدن وآدم وسائر المخلوقات بقوله‏:‏ «كن»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا إن صح فإنما ذكر على جهة التشريف للأربعة والتنبيه منها، وإلا فإذا حقق النظر فكل مخلوق فهوة بالقدرة التي بها يقع الإيجاد بعد العدم‏.‏

وقرأت فرقة‏:‏ «استكبرت» بصلة الألف على الخبر عن إبليس، وتكون ‏{‏أم‏}‏ بينة الانقطاع لا معادلة لها‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ «أستكبرت» بقطع الألف على الاستفهام، ف ‏{‏أم‏}‏ على هذا معادلة للألف، وذهب كثير من النحويين إلى أن «أم» لا تكون معادلة للألف مع اختلاف الفعلين، وإنما تكون معادلة إذا أدخلتا على فعل واحد، كقولك‏:‏ أزيد قام أم عمرو‏؟‏ وقولك‏:‏ أقام زيد أم عمرو‏؟‏ قالوا‏:‏ وإذا اختلف الفعلان كهذه الآية فليست أم معادلة، ومعنى الآية‏:‏ أحدث لك الاستكبار الآن أن كنت قديماً ممن لا يليق أن تكلف مثل هذا لعلو مكانك، وهذا على جهة التوبيخ‏.‏

وقول إبليس‏:‏ ‏{‏أنا خير منه‏}‏ قياس أخطأ فيه، وذلك أنه لما توهم أن النار أفضل من الطين، قاس أن ما يخلق من الأفضل فهو أفضل من الذي يخلق من المفضول، ولم يدر أن الفضائل تخصيصات من الله تعالى يسم بها من شاء، وفي قوله رد على حكمة الله تعالى وتجوير‏.‏ وذلك بين في قوله‏:‏ ‏{‏أرأيتك هذا الذي كرمت علي‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 62‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أنا خير منه‏}‏، وعند هذه المقالة اقترن كفر إبليس به إما عناداً على قول من يجيزه، وإما بأن سلب المعرفة، وظاهر أمره أنه كفر عناداً، لأن الله تعالى قد حكم عليه بأنه كافر، ونحن نجده خلال القصة يقول‏:‏ يا رب بعزتك وإلى يوم يبعثون، فهذا كله يقتضي المعرفة، وإن كان للتأويل فيه مزاحم فتأمله، ثم أمر الله تعالى إبليس بالخروج على جهة الادخار له، فقالت فرقة‏:‏ أمره بالخروج من الجنة‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ من السماء‏.‏ وحكى الثعلبي عن الحسن وأبي العالية أن قوله‏:‏ ‏{‏منها‏}‏ يريد به من الخلقة التي أنت فيها ومن صفات الكرامة التي كانت له، قال الحسين بن الفضل‏:‏ ورجعت له أضدادها، وعلى القول الأول فإنما أمره أمراً يقتضي بعده عن السماء، ولا خلاف أنه أهبط إلى الأرض‏.‏ و«الرجيم»‏:‏ المرجوم بالقول السيئ‏.‏ و«اللعنة» الإبعاد‏.‏ و‏:‏ ‏{‏يوم الدين‏}‏ يوم القيامة‏.‏ و‏{‏الدين‏}‏‏:‏ الجزاء، وإنما حد له اللعنة ب ‏{‏يوم الدين‏}‏، ولعنته إنما هي مخلدة ليحصر له أمد التوبة، لأن امتناع توبته بعد يوم القيامة، إذ ليست الآخرة دار عمل، ثم إن إبليس سأل النظرة وتأخير الأجل إلى يوم بعث الأجساد من القبور، فأعطاه الله تعالى الإبقاء ‏{‏إلى يوم الوقت المعلوم‏}‏‏.‏

واختلف الناس في تأويل ذلك، فقال الجمهور‏:‏ أسعفه الله في طلبته وأخره إلى يوم القيامة، فهو الآن حي مغو مضل، وهذا هو الأصح من القولين‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ لم يسعف بطلبته، وإنما أسعف إلى الوقت الذي سبق من الله تعالى أن يموت إبليس فيه‏.‏ وقال بعض هذه الفرقة‏:‏ مات إبليس يوم بدر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 88‏]‏

‏{‏قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏82‏)‏ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏83‏)‏ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ‏(‏84‏)‏ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏85‏)‏ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ‏(‏86‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏87‏)‏ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ‏(‏88‏)‏‏}‏

القائل هو إبليس، أقسم بعزة الله تعالى، قال قتادة‏:‏ علم عدو الله أنه ليست له عزة فأقسم بعزة الله أنه يغوي ذرية آدم أجمع إلا من أخلص الله للإيمان به‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا استثناء الأقل عن الأكثر على باب الاستثناء لأن المؤمنين أقل من الكفرة بكثير، بدليل حديث بعث الناس وغيره‏.‏ وجوز قوم أن يستثنى الكثير من الجملة ويترك الأقل على الحكم الأول، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏ وقال من ناقضهم‏:‏ العباد هنا‏:‏ يعم البشر والملائكة، فبقي الاستثناء على بابه في أن الأقل هو المستثنى‏.‏

وفتح اللام من ‏{‏المخلصين‏}‏ وكسرها، قد تقدم ذكره‏.‏ والقائل‏:‏ ‏{‏فالحق‏}‏ هو الله تعالى قال مجاهد‏:‏ المعنى فالحق أنا‏.‏

وقرأ جمهور القراء‏:‏ «فالحقَّ والحقَّ» بنصب الاثنين، فأما الثاني فمنصوب ب ‏{‏أقول‏}‏، وأما الأول فيحتمل أن ينتصب على الإغراء، ويحتمل أن ينتصب على القسم على إسقاط حرف القسم، كأنه قال‏:‏ فوالحق، ثم حذف الحرف كما تقول‏:‏ الله لأفعلن، تريد‏:‏ والله، ويقوي ذلك قوله‏:‏ ‏{‏لأملأن‏}‏، وقد قال سيبويه‏:‏ قلت للخليل ما معنى لأفعلن إذا جاءت مبتدأة‏:‏ قال هي بتقدير قسم منوي‏:‏ وقالت فرقة‏:‏ «الحق» الأول منصوب بفعل مضمر‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد‏:‏ «فالحقُّ والحقُّ» برفع الاثنين، فأما الأول فرفع بالابتداء وخبره في قوله‏:‏ ‏{‏لأملأن‏}‏، لأن المعنى‏:‏ أن أملأ، وأما الثاني فيرتفع على ابتداء أيضاً‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة‏:‏ «فالحقُّ» بالرفع «والحقَّ» بالنصب، وهي قراءة مجاهد والأعمش وأبان بن تغلب وإعراب هذه بين‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ «فالحقِّ والحقِّ» بخفض القاف فيهما على القسم، وذكرها أبو عمرو الداني‏.‏

ثم أمر تعالى نبيه أن يخبرهم بأنه ليس بسائل أجر ولا مال، وأنه ليس ممن يتكلف ما لم يجعل إليه ولا يتحلى بغير ما هو فيه‏.‏ وقال الحسين بن الفضل‏:‏ هذه الآية ناسخة لقوله‏:‏ ‏{‏قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 23‏]‏ وقال الزبير بن العوام‏:‏ نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم، اللهم اغفر للذين لا يدعون ولا يتكلفون، ألا إني بريء من التكلف، وصالحو أمتي، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هو‏}‏ يريد به القرآن‏.‏ و‏:‏ ‏{‏ذكر‏}‏ بمعنى‏:‏ تذكرة، ثم توعدهم بقوله‏:‏ ‏{‏ولتعلمن نبأه بعد حين‏}‏ وهذا على حذف تقديره‏:‏ لتعلمن صدق نبإه بعد حين في توعدكم واختلف الناس في معنى قوله‏:‏ ‏{‏بعد حين‏}‏ إلى أي وقت اشار، لأن الحين في اللغة يقع على القليل والكثير من الوقت، فقال ابن زيد‏:‏ أشار إلى يوم القيامة‏.‏ وقال قتادة والحسن في اللغة أشار إلى الآجال التي لهم، لأن كل واحد منهم يعرف الحقائق بعد موته‏.‏ وقال السدي‏:‏ أشار إلى يوم بدر، لأنه يوم عرف الكفار فيه صدق وعيد القرآن لهم‏.‏